ننشر على حلقات رواية "أَطفال الندى"، أبرز أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول الماضي، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كُتّاب فلسطين والعالم العربي.
لو كان لي أن أكتب هذه الرواية قبل سنوات، لاستطعتُ استقصاءَ الطرق بصورةٍ أفضل، ولربّما حفظتُ أسماءً تغيب عن ذهني الآن، وأماكنَ لا أجدها واضحة حتّى في الرواية الأصلية نفسها.
فما يُقال الآن، يُقال باختصارٍ شديد، فوادي عارة لا تُذكر تفاصيلُه عادةً، وإن كان القرويّون من مختلفِ قرى حيفا قد مرّوا به. أمّا هذه الدالية التي تتكرَّر في الرواية فقد ارتبطتْ في ذهني بأُناسٍ غامضين تسمّيهم أمّي الدروز، وتتّهمهم بالتواطؤ مع اليهود، رغم أن بعضهم كان صديقاً لخالي المسلّح دائماً، إلا أن نيّاتهم غامضة.
ولا أدري كيف يمكن أن تكون وضعيّتهم في الرواية فهم لا يحضرون إلّا عرَضاً وكأن الرواية أسقطتَهم بعد أن سقطوا من هذا الحدث التاريخي فما عادوا فيه إلا مجرّد متفرّجين.
سيتّخذ المتفرّجون من الآن فصاعداً دوراً في رواية الفلاّحِ الذي انتُزعَ من عالمهِ تماماً، فكلُّ ما يراه ويمرّ به غريبٌ تماماً... وما عليه إلا أن يحافظ على معارفهِ السابقة، ويستدلّ بها على نتوءاتِ هذه الجغرافية الجديدة التي أُلقيَ فيها، بدءاً من وادي عارة، وصولاً إلى جنين، وانتهاءً بتداولِ حكايات الغير، الحكايات التي تقصّ أخبار الجيوش العربية، والحكايات التي تقصّ أخبار القرى التي سقطتْ... ومصائر أهلها.
سيكون لكلِّ هذا وقتٌ يجتمع فيه الحاجُ القطروز من إجزم وذلك الرجل الذي اكتسبَ وجهُه في ذهني ملامحَ دجاجة من عين حوض، وتلك المرأة المسترجلة من أمّ الزينات، وسيحاول كلٌّ منهم وصلَ حكايتهِ بحكاية غيره، ووصلَ زمنهِ بزمن غيره.
وعلى هامش هؤلاء، يوجد آخرون، يذكِّرونَ أو يعدِّلونَ في مسارِ الرواية. ولن يكتمل النسيجُ، فثمة العديد من الغائبين الذين لا تُذكرُ إلا أسماؤهم بصيغة حياة المرحوم أو فلان رحمة الله عليه، هؤلاء الذين أحدثَ غيابهم ثغرات في النسيج. ومع ذلك فهذه الجماعة تحاول الوصول بالحكاية إلى اكتمالٍ من نوع ما، لتفسّر غموضَ الجغرافية والأيام من حولها، ولتهدينا نحن الآن ألغازاً فوق ألغاز.
بعضهم لا يعتقد أن في الأمر لغزاً، فالجيوش العربية لو كانت تملك أمرها لما وصل بنا الحالُ إلى ما وصلَ إليه. وتشهدُ أمّي أن جنوداً وضباطاً من الجيش الأردني، حين استنجدَ بهم سكانُ قرية، خلعوا ملابسهم العسكرية، وذهبوا للدفاعِ عن القرية. ويشهد خليل أن الجيش العراقي في جنين أذاق اليهودَ الويل، وأوقع قائده عمر الرعبَ في قلوبهم حين جاء بالأسرى، وأوهمهم أنه يطعمهم من لحم بعضهم، فذهبوا يحدّثون عن وحشيةِ هذا الجيش. والقصدُ هو بثّ الذعر في قلوب اليهود. وما كانتْ حكاية ذبح الأسرى وطبخهم إلا مسرحية أصبح بعدها اليهود يتمنّون جهنّم ولا مواجهة الجيش العراقي.
كأن الرواية أسقطتَهم فما عادوا فيها سوى متفرّجين
ويشيد عددٌ من الحضور بوطنية عمر الذي تحدّى الأوامر الرسمية، والذي لو أُعطيَ الفرصة لما وجدتَ يهودياً في فلسطين.
ويروي أبو توفيق، وقد كان صغيرَ السن حين لبس خوذة عسكرية مع الجيش العراقي في جنين، أن جندياً أردنياً حدّثه حديثاً عجَباً، فقد صدرتْ إليهم الأوامر بأن عليهم التحرّك لإنقاذ الجيش المصري المحاصَر في الفالوجة، وتحرّكوا في الليل، وساروا إلى منتصفهِ، ثم اتّخذوا مواقعهم، واشتبكوا في معركة حامية طوال تلك الليلة، ولكن حين أشرقت الشمسُ، نظروا حولهم فإذا هم ينبطحون جنباً إلى جنب مع اليهود، فانسحبوا وهم يلعنون ويسبّون.
وكثيراً ما سمعتُ أن أحد المغنين في الأعراسِ، غنّى شعراً عن شرتوك الذي هتك السبعة ملوك فاعتقلوه وفضّوا العرس.
كان نصّ الرواية محاولةً من أطفالٍ في سنِّ الكهولة أو الشيخوخة لفهمِ ما يدور حولهم، وإنقاذِ أنفسهم من الطوفان الكوني الذي أحاطَ بهم... رواية يؤمن قائلها بأنه كان من الممكن ألا تكون بهذا الشكل، فقط لو لم يحتشد الكونُ بالخيانة، ولو صدرتِ الأوامر التي لم تصدر لأسبابٍ أشدّ غموضاً.
هناك إذن، شيء أصليّ كان يجب أن تسير بموجبهِ الأحداثُ، شيء تشيرُ إليه طبيعةُ الأشياء، ولكن كلّ شيء يبدو مختّلا، فلم يظهرِ الوطنُ، ولا عادت الجماعة إلى قراها كما في القصص، ولا اصطدمَ رأسُ المضبوع بصخور المغارة، ولا انضبع الضبعُ وهربَ وهو يحشرج في الوادي. إنّ خطأ ما موجودٌ وكامن، ولكنّه مؤقّت... مؤقتٌ إلى درجة أن وضعية القروي الفلسطيني لا تُصدّق حتى من قبله، ولا يؤمن بما هو عليه الآن.
وادي عارة الذي يخترق رواياتِ أهلنا مثل علامة لا بدّ من إقامتها لتتضح خيوطُ الرواية، كان ممّرنا إلى الشرق ثم تحوّلَ إلى ممّرٍ للذين عادوا بين الفينة والأخرى، وكأنما استيقظوا، ليواجههم الرصاص، رصاصُ اليهود أحياناً ورصاصُ الدروز في أحيانٍ أخرى.
وفي التواريخِ القروية، أن هذه العودة كان لا بدّ منها ليستعيدَ القرويُّ شيئاً مما تركه في بيتهِ أو ليسأل عن بقيةِ عائلتهِ التي لم يجدها في جنين. وتقولُ الأحاديثُ إن الكثيرين عادوا فجأةً، وفي لحظة ما، كانتِ الجماعة مجتمعة تتذاكر أيام البلاد فيهبّ رجلٌ ما، ويتّخذ طريقه مسلوبَ الإرادة إلى الغرب، وتحاول الجماعة ردّه، ولكنّه لا يُصغي.
لا أحد يستطيع لمسَ البكاء والألم كما يُلمس الشيء الحقيقي
وبالطبع... لا أحد سيسمع بأخبارهِ فيما بعد، إلّا أن بعضهم كان يعود منكسراً ليهشّم بأخبارهِ ما تبقّى من رغبةٍ كامنةٍ لدى القرويّين في أن بلدتهم ما زالتْ قائمة تنتظر أهلها، وليصف بمرارة تلك البلاد التي تغيّرتْ: "أمّا بلدكم، فلا أحد فيها. وقد أقام اليهودُ نِقاطاً عسكرية عند مدخلها".
وسيسأل بعد ذلك الناسُ عن أشجارٍ بعينها كانتْ تدلّ على مواقعَ بيوتهم. وسيؤكّد العائدون وجودها. ولكن بعد أن امتدّتْ وعرّشتْ وتطاول الصبرُ وتجاوز السنسلة، ولم يعد أحد يستطيع منعه من التهام الحواكير.
لا أحد في هذه الغابة الحجرية يقوى على النمو أبعدَ من تلك اللحظة... اللحظة التي توقّفَ فيها كلُّ شيء عن الدوران. ورغم أن الشمسَ ما زالتْ تُشرق، والليلَ يلقي بظلامهِ إلا أن كل هذا لا يبدو مفهوماً تماماً أو ذا معنى، فقد خلّفوا المعنى وراءهم.
ودخلوا عالم اللا معنى... عالم المؤقّت والعابر، والإهانة التي يمكن ابتلاعُها لأنها ليستْ حقيقية، والمغارة التي يمكن اللجوء إليها لأنها مجرّد مبيتٍ مؤقّت... وحين يصرخ الصغارُ من الجوع، تعتصر القلبَ قبضةٌ من العجز حتى البكاء، وتتعلّل النفسُ بالبيتِ الذي ما زالَ قائماً، بالخوابي المليئة بالقمح والطحين، والحواكير التي كانت تمدّنا بكلّ شيء.
لا أحد يستطيع لمسَ البكاء والألم كما يُلمس الشيء الحقيقي. إنه عابرٌ أيضاً كما في الحكايات والقصص والنوادر التي يتندّر بها الفلّاحون، وهم مطمئنون إلى أنّ عالمها لا يمسّ عالمهم، فهي بغيلانها وشياطينها وضباعها تقع في عالم آخر.
سيتحوّل العالمُ إلى قصّة إذن لاحتمال ألمٍ لا يخفّفُ من حدّته إلّا الشعور بأنه عابرٌ، ولكنّ مثل هذا الأمر بحاجة إلى ذهولٍ عن ملمسِ الحجارة الغريبة، والمياهِ التي تجمّعتْ حولها خيمُ القرويين، ذهولٍ عن ملمسِ العالم الذي يطلّ من بيوتِ أصحابِ الأرض الذين لم تبتلعهم الهوّة التي أخذتْ معها قُرانا وحواكيرنا، ولن يدرك هؤلاء الذين أطلّوا خلال وجوهنا على اتّساعِ الهوّة المُظلمة، أنها من النوع الذي يتمدّد ويتّسع، وتتآكلُ الحوافُ التي تشبّثوا بها.
ويقولون إن إنساناً ما حوّله العِلمُ وحوّلته المعرفة إلى شخص مجنون، ويتّهم القرويون الإدمان على القراءة والانعزال، فأيّ جنون إذن يسكن هؤلاء الذين عرفوا رغماً عنهم أنهم انتُزعوا من أرحام أمهاتهم عراةً وعُزّلاً من كلّ شيء، وتلقَّتهم قوافلُ التموين وإشفاقُ أهل عانين وجنين وعرّابة!
المياهُ وحدها لا تكفي لرواية حكاية من النوع المطلوب، ففي الماء سقطت الخرزةُ الزرقاءُ التي حمتْ "جبينة" حتى الآن من عدوان العبدة السوداء. وهكذا، وجدت نفسها خاضعة لمصيرٍ يُروى، تنهض عن ماء العين بعد أن ارتوتْ، وتعود إلى حصانها، فتفاجأ بالعبدة وقد حالتْ بينها وبينه بل وتأمرها بأن تستبدلَ ملابسها فترتدي ملابس العبدة، فتنصاع دون أدنى شكوى، وفي أُذنيها الصوتُ المخنوق للخرزة الزرقاء في قاع العين، وتلطّخ العبدة وجهَ جبينة بالوحلِ الأسود، وتأمرها بالمسيرِ أمامها هي التي استولتْ الآن على كلّ ما كان يميّز جبينة.
وتتواصلُ الحكاية الآن، ولا أحد يدري بما حدثَ والعبدة تنتحلُ شخصية جبينة... وجبينة مجبرة على أداءِ دور العبدة... في طريق طويل قد ينتهي ولا ينتهي. المياهُ وحدها لا تكفي لتحوّل الرواية إلى خيالٍ جميل تتحرّك فيه جبينة عائدة إلى البلد بعد أن تحدّثتْ في غربتها مع طير السماء، وأبكت الغنمَ والماعزَ، وبلّتْ بدموعها ظلال الدالية، وأنقذتها هذه الأغنية التي كانت تغنّيها كلّ يوم إلى أن سمعها صاحبُ الغنم فعرف من هي وأهلها وفصلها.
من يمنع الصبر بعد الآن من التهام الحواكير
سنغنّي إذن تلك الأغنية المستمرّة التي حين يصغي إليها الناسُ سيعرفون من نحن ومن نكون وأي مصير ينتظرنا... كلُّ هذا قبل أن تنطق الحجارة أو يدلّ الشجرُ على اليهودي أو ترتفع الدماءُ إلى الركب. سنغنّي هذه الأغنية، ونواصل البكاءَ الذي لا يُنسَى في وادي عارة، وعلى أطراف البساتين ثم في عمقِ العواصفِ التي تهبّ فجأة فتقتلع الخيامَ المقامة على عجلٍ... والتي تناثرتْ بين جنزور وعين شمس والفارعة، وحيثما كان الماءُ... الماءُ الأسطوري الذي خُلقنا منه وخُلق منه كلّ شيء، وما زال يسيل بلا ذاكرة، فتمتلئ بئر الهرامس، وتهتزّ وتربو أعشابُ الروحة حين يتساقط من السماء، وينهالُ على بيوتنا الحجرية على السفح الجنوبيّ للكرمل، وفي عمق الوادي الذي تطلّ منه المُغُر.
ويزخّ حين يتحوّل اتجاه الرياحِ فيبلّل واجهاتها الصخرية، ويسيل إلى الداخل فيصل إلى التراب المائل للاحمرار، وشظايا الجرار المكسورة، ويتوغّل عميقاً ليلامس عظام الأجداد... أولئك الذين عبثت بهم دوروثي غرود ذات يوم، وإن ظلّ معظمهم غائراً في العتمة لا تجد هذه البريطانية سبيلاً إلى إغرائه بالكشف عن نفسه.
سنغنّي هذه الأغنية إذن، ونحن واثقون من أن أصلنا وفصلنا لا بدّ أن يُعرفا يوماً، ويقامُ لنا احتفالُ العودة، ويزول الاختلاط الذي سبّبه انتحالُ العبدة لشخصية هذه الطفلة البريئة التي لم ترتكب جريمة سوى أنها كانتْ تودّ أن تذهب إلى عرسٍ في قرية مجاورة.