في ثُلاثيّتها الروائية، تستعيد أمل بوشارب التي نالت أمس السبت "جائزة محمد ديب للأدب"، محطّات مهمّة طبعت الذاكرة الجَمعية للجزائريين بدءاً من الثورة التحريرية، ومروراً بالعُشرية السوداء، وصولاً إلى الحراك الشعبي الذي اندلع في شباط/ فبراير 2019.
تستحقّ الكاتبة والمترجمة الجزائرية المقيمة في إيطاليا الجائزة في دورتها الثامنة ضمن فئة الرواية المكتوبة بالعربية، عن روايتها "في البدء كانت الكلمة" عن "منشورات الشهاب" (2021)، إلى جانب فوز وليد الساحلي عن نصّه "تارقاقت" ضمن فئة الرواية المكتوبة بالأمازيغية، وكلثوم سطاعلي عن نصّها "المدينة ذات العيون الذهبية" ضمن فئة الرواية المكتوبة بالفرنسية.
تختار بوشارب أجناساً روائية لا تزال التجارب العربية فيها محدودة كمّاً ونوعاً، لكنها استطاعت أن تجذب القارئ إليها عبر سردٍ يتّسم بالتشويق حيث نسجت أحداث روايتها الأولى "سكرات نجمة" (2015) بكتابة تنتمي إلى الكتابة البوليسية، بينما لجأت إلى الخيال العلمي في روايتها "ثابت الظلمة" (2018)، وتختتم الثلاثية بروايتها الأخيرة التي تأتي في إطار أدب الرعب.
تختار أجناساً روائية لا تزال التجارب العربية فيها محدودة
خيارات تعكس تمكُّن الكاتبة من أدواتها السردية، وامتلاكها مخزوناً معرفياً وفكرياً يؤهّلها إلى تقديم شكل روائي قريب من المتلقّي العادي، ويحمل عمقاً وتكثيفاً للأفكار والرؤى التي تناقشها في نصّها "في البدء كانت الكلمة" الذي تدور وقائعه في العَقدين الأخيرين اللذين لا ينفصلان بالضرورة عن سياق تاريخي ثقافي في بلادها يمتدّ إلى ما قبل ذلك.
تؤسّس بوشارب روايتها على مفاهيم ونصوص نخبوية، كما تشير في أحاديث صحافية سابقة، هي: "نجمة" لكاتب ياسين، و"الثابت الكوني" لألبرت أينشتاين، و"في البدء كان الكلمة" من إنجيل يوحنا، محاوِلةً رصْد التطوّرات السياسية والاجتماعية في الواقع الجزائري ثم تفكيكها، دون إغفال العنصر الاستعماري وتمدُّداته، الذي "أصبح بطريقة أو بأُخرى جزءاً لا يتجزّأ من صناعة الوعي المحلّي حتى في أقصى الأقاليم النائية؛ جغرافياً واجتماعياً، والتي نعتقد أنها الأبعد عن سهام العولمة"، على حدّ قولها.
تتناول الرواية سلسلة جرائم وقعت في مناطق عدّة في الجزائر، وكانت تستهدف عمليات خصاءٍ غامضة لأطفال دون عمر الخامسة، لتخلق شخصياتها الأساسية المتعدّدة في تكوينها وخلفياتها؛ هنادي السورية الهاربة من جحيم القتل والتدمير في بلادها فتواجه مشكلات عدّة خلال سعيها إلى التكيّف مع مجتمعها الجديد، بينما تحمل الأميركية كايلا روحَ القاتل الجزائري فاتح مترَف الذي تدور الرواية عن عائلتهِ، في استعارة لفلسفة تناسخ الأرواح.
ترسم بوشارب مصائر مختلفة هذه العائلة، حيث اختفى الأب بعد اختطافه من قبل جهازٍ أمني بعد توجيه اتهام إليه بإخصاء عددٍ من الأطفال في أثناء عملهِ ممرضاً ليتكشف لاحقاً أنّه قُتل، والأخ الذي يريد أن يطرد عائلة أخيهِ، وياسمين، ابنة مترف التي تدرس الطب وتحاول التمرّد على النظام الأبوي من خلال إصرارها على العمل ومشاركتها في الاحتجاجات التي عمّت الجزائر سنة 2019، إلى جانب الطبيب الذي يتواطأ مع الممرض، وكذلك رجل الأمن الذي يبدو مسيطراً على جميع الأشخاص والأحداث من حوله.
تُفكّك الرواية كيف تعوّض الذكورية نقصها بتعنيف النساء
تتعدّد قراءة النص الذي تبرع مؤلّفته في توظيف حقائق تاريخية ومفاهيم تستند إلى دراسات تاريخية وأنثروبولوجية وإحصائيات كما لا تغيب تفاصيل تشريحية طبيّة وأخرى تتنسب إلى نظريات التحليل النفسي، إذ تبرز في أحد مستوياتها فكرة عجز السلطة الذكورية التي يرمز إليها الخِصاء، فيلجأ الرجال إلى تعويض إحساسهم بالنقص من خلال تعنيفهم للنساء. وفي مستوى ثان، تتجلّى الجريمة بوصفها تعبيراً عن مأزق اجتماعي سياسي أكبر يدفع الضحايا لارتكاب أفعال خارجة على القانون والنظام.
لا يُمكن النظر إلى مشروع بوشارب السردي الذي ابتدأته بمجموعتها القصصية "عليها ثلاثة عشر" (2013)، بمعزل عن بحثها الدؤوب في دوائر متنوّعة، حيث تناقش دراساتها وكتاباتها النقدية تلك العلاقة الشائكة بين المستعمِر والمستعمَر والشرق والغرب في تفكيك متواصل لسياسات الغرب وتراكم نظرته الإقصائية وإلغائه الآخر، أو في تجاوزها للأُطروحات التقليدية للنسوية في كتاباتها التي تنبش في تناقضات المجتمع العربي، وتتأمّل في تأثير الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على سلوك الفرد وذاكرة الجماعة، وهي بذلك تطرح الأسئلة بذكاء وتمضي في عملية النقد والتفكيك ولا تقدّم أجوبة جاهزة.
وفي دراستها لثنائية المركز والهامش، يأخذ منظور الكاتبة إلى تشكّل السلطة الجزائرية، والعربية عموماً، وعلاقاتها بُعداً أوسع، فهي من جهة تخضع لهيمنة الغرب واستغلاله، كما تسعى فئةٌ انتهازية إلى احتكار الثروات والتحكّم في مصالح الشعب من جهة أخرى، في توضيح لآثار الثقافة الاستعمارية الغربية على الثقافات الأخرى التي تقع خارج منظومتها؛ ومنها العالم العربي.
تمثّل الترجمة مساراً أساسياً في تجربة بوشارب إلى جانب الكتابة الإبداعية والنقدية من خلال اهتمامها بتعزيز التثاقف بين العربية والإيطالية سواء في ترجمتها الشعر من وإلى اللغتين، أو في إطلاقها مجلة "أرابيسك" التي تصدر بالإيطالية وتتخصّص بالأدب العربي بالاشتراك مع دار النشر الإيطالية Puntoacapo، كما تتوقّف في عدد من زواياها عند الفنون البصرية ودراسات ثقافية أنثروبولوجية للعالم العربي.
يُذكَر أنّ أمل بوشارب من مواليد دمشق 1984، حاصلة على ماجستير في الترجمة من "جامعة الجزائر". أصدرت أول أعمالها القصصية عام 2013 بعنوان "عليها ثلاثة عشر"، في حين يتألّف مشروعها الروائي من ثلاثة أعمال: "سكرات نجمة" (2015)، و"ثابت الظلمة" (2018)، و"في البدء كانت الكلمة" (2021)، كما تُصدر وتحرّر مجلّة "أرابيسك" في إيطاليا حيث تُقيم.