نظّم، يوم الخميس الماضي، "مركز لويس بوزيه لدراسة الحضارات القديمة والوسيطة"، التابع لـ"جامعة القدّيس يوسف" في بيروت، مؤتمراً بعنوان "أوجه الحبّ وتجلّياته"، بحثت فيه مجموعة من الأكاديميين والباحثِين اللبنانيّين بمُتونٍ ومؤلَّفاتٍ تناولت موضوعة الحبّ، ونظروا في أشهر الشعراء والمتصوّفة الذين خاضوا تلك المغامرة وعاشوا في كنفها.
أمّا الجامع الزمني بين تلك المتون، فهو تأليفها في عصورٍ اصطُلح على تسميتها - وفقاً للترسمية الأورومركزية للتاريخ - "القرون الوسطى". ورغمَ ما يستبطنه هذا المصطلح من إشكالياتٍ نبّه إليها بعض مَن شارك في المؤتمر نفسه من باحِثين؛ إلّا أنّ قواسم مختلفة تشترك بها تلك الكتابات على المستويَين الفقهي واللاهوتي، هي ما ركّزت عليها محاور جلسات المؤتمر الثلاث، والذي تضمّن في حصيلته تسع أوراق بحثية (ثلاثٌ منها بالفرنسية).
مدّ الحبّ العُذري، بما هو ظاهرة أدبية وسوسيولوجية في آن، ومن ثمّ عرفانية أيضاً، الباحِثِين بالمادّة الأساسية والأعمّ لما قدّموه؛ حيث تجلّى العذريُّون بوصفهم نماذج دراسة، وعلى رأسهم الشاعر قيس بن المُلوَّح (645 - 688م) الذي اشتُهر بـ"المجنون". هذا ما وضّحه الباحث جاد حاتم (1952) في ورقته "النموذج المكافئ للحبّ النقي عند الصوفية: حالة مجنون ليلى". وورقتُه هذه، في أحد وُجوهها، منتقاةٌ من عدّة مؤلّفات اشتغل عليها خلال مسيرته الأكاديمية وصدرت بالفرنسية.
ما يجمع بين تلك المتون هو تأليفها خلال ما يُسّمى "القرون الوسطى"
وأشار صاحب "مجنون ليلى والحبّ الروحاني" ("لارماتان"، 2010)، إلى ارتحال أسطورة العشق من حواضنها العربية صوب أُخرى تركية وأفغانية وفارسية، بعد أن استَلف من معجمها الكثير من المتصوّفة المؤسّسين كالحلّاج (858 - 922م) صاحب الشطحات الشهيرة مثل "أنا الحق"، و"أنا من أهوى ومن أهوى أنا"، والتي أعادها حاتم إلى مقولة قيس "أنا ليلى"؛ وكذلك إلى ابن عربي (1165 - 1240م) في "ترجمان الأشواق"، قبل أن تتوطّن الظاهرة في جوارات الثقافة العربية، وتصبح جزءاً من تراثٍ أشمل.
واستكمل الباحث وليد خوري ما ذهب إليه حاتم، واضعاً الظاهرة في إطارها الاثنيني، وعلى هذا الأساس عنون ورقته "الحبّ على بساط المثنّى: غزارة المتن وخصوبة الصيغة"، كما نبّه إلى تدرّجات الحبّ في اللغة ذاتها، وحساسيّتها في تمثيل تفاصيله ومراتبه من الغرام، والهوى، والخلّة، والهيام، إلى العشق والفناء؛ بالإضافة إلى توسيعه مدى التأثّر بالحبّ العذري خارج الجغرافيا الإسلامية، لا فقط الثقافة العربية وجواراتها، كما عند الشاعر الفرنسي لويس أراغون (1897 - 1982) في "مجنون إلزا"، وقبله المسرحي الإنكليزي وليم شكسبير (1564 - 1616) في "روميو وجولييت".
أمّا في سياق الفقه المجتمعي، وهو المقابل الموضوعي والعَملي للحالة الصوفية الذوقية، والتي "قدّمت الحقيقة على الشريعة" كما في اصطلاح "سلطان الأولياء" ابن الفارض؛ فإنّ خوري قد استحضر كُلّاً من الغزالي (1158 - 1111م)، ومحمد باقر المجلسي (1627 - 1699) كأمثلة أُولى على التباينات التي تؤطّر المنفعة المجتمعية العامة أو العملانية التي لا تفصل العاطفة عن الجِنس، قبل أن يتمّم المشهد باسم أخير، من حقل الفلاسفة هذه المرّة، هو مسكويه (932 - 1030م)، المعروف بنموذجه المحدود بـ"الخير، واللذة، والمنفعة".
من جهتها، قرأت الباحثة نايلة أبي نادر نموذجَ الحبّ الصوفي من خلال سيرة حياة المتصوّفة رابعة العدوية (717 - 801م)، محاولةً تقديم صوتٍ نسوي في ورقتها "العشق الصوفي ورحلة البحث عن المعنى"؛ فصحيح أنّ قيس قد جُنّ إلا أنّه باحَ بوجْدِه، أو قدّم روايته على الأقل، أمّا ليلى فقد "ماتت كتماناً". وهنا لا بدّ من الاستعانة، حسب أبي نادر، بِسِيَر المتصوّفات اللواتي نقلْنَ التجربة الحسّية إلى أُخرى روحية، لتبقى المرجعية في ذلك كلّه، هي رابعة العدوية مؤسّسة مدرسة "العشق الإلهي"، والمَبدأ الناظم لذلك العشق هو "عبادة الله لا خوفاً ولا طمعاً"، على عكس مبدأ الرهبة والخوف.
واللافت في ورقة أبي نادر، أنّها حاولت الخروج من الأُطر الدَّرْسية التي تضمّنتها أوراقُ المؤتمر، مُسقِطةً واقع حال "شهيدة العشق الإلهي"، وما قاسته في حياتها، على راهن الثقافة والأكاديميا اللبنانيّتين، وما يعيشه المشتغلون فيها، اليوم، من ضائقة مادّية بفعل ما بات يُسمّى في اليوميات العادية بـ"الانهيار"؛ حيث لا قيمة لما يتقاضاه الباحث من أجر، مهما بلغت مادّته العِلمية من رصانة. كانت ورقة أبي نادر وحدها التي قاربت مفهوم التصوّف في سياقه الاجتماعي الذي يسعى إلى التغيير، مقابل انحصار القراءات الأُخرى ضمن حقل اللاهوت وإشاراته، أو ما كان هادي العلوي يسمّيه "التصوّف الاهتيامي" (الرومانسي).
بدورها، لفتَت الباحثة ندى معوّض، في ورقتها "الحبّ في العصر الوسيط بين العُذري والإيروتيكي والمسيحي" إلى متنٍ تراثي بارز هو "ألف ليلة وليلة"، وعلاقة السرد العجائبي وتموضع المرأة في تلك العلاقة، كما تطرّقت إلى نماذج من الحكايات الشعبية التي شاعت في أوروبا بتلك الحقبة.
كما حضَر في المؤتمر متنٌ مرجعيٌّ لا بدّ من الإشارة إليه عند كلّ حديث عن التأليف في ظاهرة الحبّ، وهو "طوق الحمامة" للفقيه ابن حزم الأندلسي (994 - 1046م). ورغم أنّه كان يُمكن الاحتفاء بالكتاب بشكل أوسع، خصوصاً أنّ هذا العام يشهد ذكرى مرور 1001 عاماً على تأليفه (الشائع أنه أُلّف عام 1022م، ويذهب إحسان عبّاس للقول إنه أُلّف بين 1022 و1027).
أغفلت الأوراقُ كتابات مُفكّرين عرب معاصرين عن الحب العذري
وقد تناولت الكتابَ ثلاثٌ من أوراق المؤتمر، الأُولى "الحب العذري في العصر الوسيط" للروائي إسكندر نجّار، الذي قرأه في إطارٍ إجمالي كأحد المؤلّفات التي تأثّرت بـ"محاورة المأدبة" لأفلاطون، ومؤلّفات إسلامية أُخرى مثل "الزهرة" لابن داوود الظاهري (868 - 909م)؛ والثانية "خطاب الحبّ وتفكيكية رموزه عند ابن حزم الأندلسي: من 'طوق الحمامة' إلى 'الأخلاق والسِّيَر'"، والتي آثر صاحبُها الباحث أديب سيف أن يقرأ الكِتاب على ضوء المنهج التفكيكي والأدوات التي وضعها الفرنسي جاك دريدا (1930 - 2004)، إلّا أنّ العنوان العريض يعِد المتلقّي بأكثر من النتائج التي وصل إليها الباحث، والذي استغرق وقتاً في التعريف بمنهجه وأدواته، وعندما حان وقت تطبيق تلك الأدوات على نصٍّ من نصوص صاحب "الطوق"، لم يختر الباحث سوى مقطع واحد وانهال عليه تشظية وتقويضاً، بطريقة تذكّر بـ"قوّة الكلمات السحرية".
أمّا الورقة الثالثة التي جاءت على ذِكر ابن حزم وكتابه، فهي "الحبّ عند الفقهاء"، ووقّعها الباحث أحمد الزعبي، مقارناً بينه وبين ابن تيمية (1263 - 1328م)، لافتاً إلى أنّ المدوّنة الحنبليّة ناقشت مسألة الحبّ من منظور فقهي؛ بالتأكيد لم تكن مساهماتها كمحاولة الشعراء والمتصوّفة، ولكنّنا نقع فيها على عناوين مثل: "اعتلال القلوب" للخرائطي، و"ذمّ الهوى" لابن الجوزي، و"روضة المُحبّين ونُزهة المُشتاقين" لابن القيّم الجوزية. وفي هذا السياق تمكن قراءة أفكار ابن تيمية حول "روحية المحبّة"، وكذلك عودته إلى المنطلق الأفلاطوني السائد حول تشاكُل الأرواح وتآلفها، وبحثِ كلّ نصفٍ عن شبيهه، وهو ما تمثّل بداية عند ابن حزم.
وحيثُ يُذكر الحبّ فإنّ المحبّة كمفهوم ملازم تحضر أيضاً، خصوصاً أنّ مقام الحديث عن العُذري منه يتلاءم مع التصوّرات المسيحية التي لا يؤخَذ فيها الجسد موضوعاً، بقدر ما يجب التحوّط من رغباته وإفرازاته. وفي هذا السياق قدّم كلٌّ من الباحثَين: سليم دكّاش وجورج تامر ورقته، الأوّل بعنوان "الحب والمحبة في كتابات الشيخ الروحاني يوحنا الدلياتي من القرن الثامن"، والذي سبق أن ترجم له دكّاش عن السريانية عدداً من كتاباته، أمّا تامر فتناول، في "بستان الحبّ والحرية"، مسألة الحرّية في علاقة الإنسان بخالِقه، وأنها علاقة تتأسّس على الحبّ، مُستلّاً مُحدّداتها ممّا جاء في الإنجيل.
يُحسَب للمؤتمر شموليّته على عدد من الطروحات المتنوّعة، في ظلّ غياب انعقاد مثل هذه المناسبات على المستوى الأكاديمي اللبناني. ولكنْ، كان يُمكن، أيضاً، الإشارة إلى أعمال مُفكّرين عرب معاصرين هم في صميم العقلانية والحداثة ومناهجها، وسبق لهم أن نقدوا ظاهرة الحب العذري (سواء اتّفقنا معهم أم اختلفنا)، مثل السوري صادق العظم (1934 - 2016) في كتابه "الحب والحب العذري" (1968)، أو التونسي الطاهر لبيب (1942) في "سوسيولوجيا الغزل العربي: الحبّ العُذري نموذجاً"؛ وكذلك العراقي هادي العلوي (1932 - 1998) الذي قدّم قراءة نقدية للتصوّف، ومختلفة عن الرائج حتى في الأوساط الحداثية، مُؤوّلاً إيّاه وفقاً لرؤية اجتماعية تحضر فيها مفاهيم كالطبقة والسُّلطة والموقف منهما، أكثر من رومانسية الطقوس والنصوص.