إن تسمية الأشياء بمسمّياتها، أمر فوق طاقة ومصالح الإمبرياليين. هم يجهدون في التوحّش، ساعة الجدّ، مع مهمّة من قبيل القناع: إضفاء الطابع الإنساني على فعل الشرّ.
ومع وقوعهم وغرقهم في قبضة أكبر أزمات الاقتصاد والروح والحضارة (التي لا فكاك منها)، يحاولون، ظاهراً، التمسّح بالقيم والمبادئ العليا، والتقرّب مِن مواطني تلك الجغرافيا التي غدت هدف الشر، بدعاوى، أولاها تعليمهم الديمقراطية، على طريق الازدهار الاقتصادي، والخروج من الوضع العام المتخلّف.
لكن ما يفعلونه على الأرض، ينقض كل تلك المزاعم. فأينما يحطّ الإمبريالي الغربي رجله أو رحله، ينتشر الأسى، جراء سوء التغذية، ويعمّ الخراب (الإمبرياليّون بحاجة للحروب ودماء الشعوب، دوماً).
وسواء تدخلوا في تلك الجغرافيا، بالعسكر أو بالسياسة، يتراجع كل شيء، حثيثاً، إلى الوراء.
ذلك أن لا شموليّة ولا مكارثيّة ولا نازيّة ولا فاشيّة (هذه المخلوقات الشائهة مجرّد بنات شرعيات من رحم الرأسمالية الأم)، أعتى وأبشع مما يفعل الاحتلال العسكري أو السياسي.
المؤلم بحق أن أكثر من يؤمن بهم، هم حكامٌ ظهروا من بين ظهرانينا
قد لا يعرف من لم يبلُ كوارثهم، سوى النذر عن حقيقة أفعالهم (كما هنا في غرب القارة)، لكن من وقع تحت ثقلهم الباهظ، يعرف مخبوءهم ومتيقن من الوجه القبيح لتلك الحقيقة.
إنهم مثل العديد من أنواع السرطان، لها بصمة غاية في التميّز، لا تنجلي إلا في ضوء الأشعة الحمراء. لكنهم يختلفون عن أحوال العضال، في إمكانية رؤية شرهم المطلق بجميع أنواع الأشعة، ومنها شعاع العين المجرّدة، إن فكّرت.
في علم الطبابة والفيزياء، تُحبّذُ محاولة اكتشاف الأورام الخبيثة في مراحل مبكرة، بحيث يصبح علاجها أسهل بكثير، وكذلك الحال مع الإمبرياليين.
إنهم حديثون جدًا، بل رأس الحداثة في التصنيع والتكنولوجيا وما يلحقهما من كل جديد، ومع هذا، فإن ملامح وجوههم – التي يحاول فنانو الماكياج في القنوات الرأسمالية أو الحكومية إخفاءها باستخدام كريم الأساس وخافي العيوب – تبدو قديمة جدًا. والحق أن الإمبرياليين، على اختلاف منابتهم، أقوام عتيقة وغابرة في التاريخ، حتى لو ارتدوا اليوم حذاءً بنيًا على طراز أكسفورد وسروالًا داكنًا وقميصًا أزرق يشبه لون السماء.
هذه هي خزانة ملابسهم النموذجية: فهم لا يرتدون أبدًا الزي العسكري الذي كان ضباط جيوشهم مغرمين به. وعادة ما يظهرون لابسين قبعات من القش أو قبعات البيسبول، فوق الشورت، على حذاء رياضي، في إجازات تتخلل المنصب، أو بعد الخروج منه إلى التقاعد.
ولشدّ ما كان هناك، طيلة القرون الأخيرة، من اعتقد ذات مرة أن لديهم ضربة ساحقة في جعبتهم، وأنهم سيغيّرون مستقبل الكوكب. فهم الإمبرياليون، لا ينقصهم جبروت ولا يد طويلة.
والمؤلم بحق، أن أكثر من آمن ولا يزال بهم، هم حكامٌ ظهروا من بين ظهرانينا، وكانوا الأشد خنوعاً لهم وفتنة بهم، والأعلى افتقاراً إلى الكرامة، من بين الناس جميعاً، على مستوى الكوكب.
حتى وصل الحدُّ بأغلبهم، تحت الطاولات، وفوقها، أن يمتهنوا شيطنة المقاومة، أينما كانت، "لأسباب أيديولوجية"؟ وليس من النادر أن يتم هذا عبر منابر هيئة الأمم.
ما يجعل المرء، يستدعي، رغم أنفه، ما قال شاعر العرب: "ليس لجرح بميت إيلام".
وما يجعل المرء، يستدعي برضاه، أيضاً، وحباً بالمقارنة، ما فعلت جزيرة كوبا، كمثال ناصع، وهي مجرّد نقطة في محيط أميركا، منذ انتصار كاسترو وغيفارا العظيمَين.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا