استمع إلى الملخص
- الترجمة ليست مجرد انعكاس للنص الأصلي، بل هي عملية تأويلية تتطلب إبداعًا وتأملًا، حيث يمكن أن تصبح الترجمة أصلًا بحد ذاتها في الثقافة الجديدة.
- يجب التوقف عن تقديس النص الأصلي واعتبار الترجمة مجرد نسخة، حيث يواجه المترجمون تحديات تتطلب قرارات إبداعية، مما يعكس أهمية الترجمة كعملية إبداعية.
تبقى النصوص الأدبية بأجناسها المختلفة حبيسةَ لغتها وثقافتها، وعديمة التأثير في غيرها، إلى أنْ يُتَاح لها التوسُّع لسانياً خارجَ مجالها اللغوي، لأجل الوصول إلى ثقافات العالَم، وقد يتيسر لها ذلك إذا ما أُتيحتْ لها فرصةُ الصدور متَرجَمة، بأن تَحلّ ضيفاً غريباً على غيرها، فيُكتشَف فيها المُختلفُ الذي يُغني، لا محالة، الثقافات المُضيفة بمُعجم غريب، وقضايا متنوِّعة، ومواضيع جديدة وأساليب مُبتَكَرة... إلخ.
ويتصوّر القارئ عند وضعه النصّ المترجَم بين يديه أنه سيقرأ الأصْل، لاعتقاده بأن المترجِم يُنجِز عملاً بريئاً ونبيلاً، يَكون مناطُه إحلالَ نَصّ "الانطلاق" في لغة وثقافة غريبتيْن عنه ليَغْدو نصَّ "الوصول"، مع المحافَظَة على الوفاء التامّ له، ليَخرُج على الشَّاكلة التي كان مؤلِّفه الأصلي سيكتبُه بها، لو أنه كان يُتقن اللغة المُضيفةَ ويُحيط بثقافتها، خصوصاً أنّ الدار الناشرة له تَسهر على ضمان جودة الإخراج، والوفاء للمتن الأصلي معنى ومبنى.
وعموماً، يتوسَّل البشر، عند إنجازهم لأيّ تَخاطب لغوي أو إشاري في ما بينهم، بعلامات متنوعة؛ وواهِمٌ من يتصوَّر أنّ العملية تتسم بالميكانيكية، فهي ليست بمعزل عن التأويل. ونَعلمُ أن للتأويل، بحسب ريشارد إ.پالْمِر، معانيَ ثلاثة هي: القول والتفسير والترجمة؛ لِتَكون الترجمة تَلقِّياً غيرَ مُتطابق بالضرورة مع ما يتصوَّرُه باعثُ الرسالة، وتَكون تَرجمةُ المقول أو الإشارة تأويلاً يتحقَّق فيه ما يَتميَّز به عن مُنطَلقه، بما يطبعه من اختلاف عمّا يُعرَّف بكونه أصْلَه، وتبعاً لذلك فإنَّ كلّ تبادل لرسائل مهما كان حامِلُها يُعَدّ ترجمة، على اعتبار أننا تلقائياً "نترجم عند دخولنا في اتصالٍ سمعي أو قرائي مع الماضي"، وَفق جورج ستاينر، فكل علامة تَحدُث يستتبعها أكثر من فهم.
هكذا، تتحرّر الترجمة من وصمة الانعكاسية، وتصير مُستحِقّة لأنْ يُعتَرف بها بصفتها إعادة كتابة لما يُعرَّف بأنّه "أصلُها"، وتغدو مُستحِقَّةً لأن تنتزع لذاتها صفة الإبداعية، بما يتوافر لها من اقتدار على التأمّل في ذلك "الأصل" من جهة، وعلى الوعي بأساليبه الموظَّفة من جهة ثانية، ناهيك عن تبَنِّيها صوتَ مُنجِزها، الذي له وعيُه الخاص، وحساسيتُه التعبيرية من معجم وأسلوب وتصوير... إلخ. ونوعيةُ الحوار الذي يُقيمه مع العمل المنقول، الذي يتوخى منه أن يغدو في حد ذاته أصلاً لغيره، بل قد يَرُوم لذلك "الأصل" أنْ يصير أثراً بعد عين، ليس بتدميره والقضاء عليه، وإنما بإحلال الترجمة محلَّه، لأنه كأصل يستمرّ حيّاً في لغته وثقافته، دون ريب.
لنكُفّ عن تقديس الأصل ونعت الترجمة بأنّها نسخة عنه
والواقع أنّ المترجِم لا يَعمَد، في الأغلب، إلى إحداث تغييرات في الأصل، تلك التي ينعتُها بعضُهم بالتصرُّف أو التحكُّم في ما ليس له فيه حقّ، بل إنه يُضطرّ إلى ذلك أمام الصِّعاب التي يُصادفها أثناءَ نقله لنصّ من ثقافة ذات أنساق مغايرة إلى أُخرى مختلفة عنها تماماً، فيكون مُجبَراً على اتّخاذ قرارات متنوِّعة، تَنجُم عنها اختلافات عديدة ولافتة، وهي التي تُحوِّل النصَّ الأصْلَ إلى آخَر، فيُسمّي بعضُهم العمليةَ خيانة، ويُسمّيها بعضهم الآخر إبداعاً؛ ولا مراء في أنّ كلَّ واحد من الطرفيْن يَصدُر عن موقفيْن: أحدهما أخلاقي والآخر جمالي.
ولا غرو في أن نَظير هذا الطموح الإبداعي من قِبل المترجِم مشروعٌ ولا يَعني أيَّ سطو على "الأصل" أو تَنكُّر له، ما دام أنه لا ينفي أنّ الأخيرَ هو عِلّة وجودِ ترجمته، وأنّه مُلهمُه. ويبدو لي أن الممارسين للترجمة كانوا أكثر تفهُّماً لهذا الواقع، لمدى معرفتهم بمعاناة المترجِم.
فَلنكُفّ عن تقديس "الأصل" بتأكيد استحالة الترجمة، ونعتِها بالنسخة مُقارَنة بأصلها، ولنُذكِّر في هذا السياق ببورخيس، الذي ابتدَأ مَسيرَه الكتابي مُجترِحاً الترجمة التي برَّز فيها، والذي كثيراً ما اهتبل مناسبات عديدة للتنويه بجهد المترجِمين، ولِيُبدِي إعجابه الخاص بمترجِمه إلى الفرنسية نِسْطُور إِيبارَّا، الذي اعترفَ له بتفوُّقه على نصوصه البورخيسية، وبنجاحه في إعادة كتابتها تصويرياً وأسلوبياً وتأويلياً بإبداعية مُتفرِّدة.
* أكاديمي ومترجم من المغرب