في محاضرة ألقاها أول أمس الثلاثاء في "المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون/ بيت الحكمة"، في قرطاج بالقرب من تونس العاصمة، بعنوان "تأثير ابن الجزّار العلميّ في أوروبّا في القرون الوسطى"، أشار أستاذ تاريخ العلوم والباحث التونسي إبراهيم بن مراد إلى ثلاثة مواقف أساسية تحكم النظرة إلى الحضارة العربية وأثرها على الأوروبيين.
وأوضح المحاضِر أن الموقف الأول تمجيدي يرى في التراث العلمي العربي الإسلامي الأساس الذي بنيت عليه الحضارة العلمية والتقنية الحديثة، والموقف الثاني تحقيري يرى في التراث العربي الإسلامي مجرّد مادة مجمعة من المصادر الأعجمية التي نُقلت إلى العربية في عصر الترجمة، وينزع أصحاب هذا الموقف عن العرب والمسلمين فضل السبق والإضافة في كثير من مجالات العلم.
ولفت إلى أن الموقف الثالث لا يعني أصحابَه من التراث العلمي العربي الإسلامي شيءٌ لأنه أصبح في نظرهم مجرد حديث من أحاديث الماضي، وليس له اليوم من فائدة غير ما يفيد درس التاريخ القديم، مبيناً أن المواقف الثلاثة تحمل مبالغة وشططاً في الحكم، فلا التمجيد قادر على الإضافة للتراث العربي ما ليس فيه، وليس التحقير بقادر على أن ينزع عنه ما اختص به من إضافات أثّر بها في الحضارة الإنسانية، وليس التنكّر له وتجاهله قادرين على أن ينفيا عن تاريخ العلم أنه حلقات متعاقبة ومراحل متتالية، وتكون المرحلة السابقة سبباً في وجود المرحلة التي تليها.
وفق هذه النظرة، عاين بن مراد دور الطبيب المسلم أبو جعفر ابن الجزار ضمن الحضارة الإسلامية في القرون الهجرية الخمسة الأولى التي تأثرت باتجاهين ورثتهما عن اليونان؛ الأول يرى الطب تجربة وقياساً على هدي أبقراط لكنه يغلب التجربة على القياس، حيث تغلب الملاحظات السريرية عن أحوال المرضى ويقدّم على ضوئها استنتاجات علمية دقيقة في تشخيص الأمراض وعلاجها، والثاني يتمثل في مذهب جالينوس الذي يمزج بين الطب والفلسفة التي تعد أم العلوم، وغلب فيه القياس على التجربة والاختبار، والقياس لديه كان على مذهب أرسطو.
وأشار إلى أن تأثير أبقراط كان في بلاد المغرب والأندلس أكثر منه في المشرق الذي تأثر أطباؤه بجالينوس، وظهر ذلك في مؤلفات ابن الجزار الذي ولد في مدينة القيروان التونسية، موضحاً أن كتابه "زاد المسافر وقوت الحاضر" استقبل استقبالاً حسناً في المشرق الذي كان يعدّ حينها مصدر العلم والأدب فحظي بمكانة عالية لدى العلماء والأطباء، وهو كتاب في علاج الأمراض، من مجلدين، وقد ترجم وطبع باللاتينية واليونانية عدّة مرات.
وذكر بن مراد أن كتاب "زاد المسافر وقوت الحاضر" نال شهرة واسعة بين أطباء القرون الوسطى، وظل يدرّس في الجامعات الأوروبية حتى القرن السادس عشر، وهو يتكون من جزأين يحتويان على سبع مقالات، تختصُّ بمعالجة أمراض الكبد، والكُلَى، وأعضاء التناسل، وأمراض الجلد، والحميات، ولدغ الهوام، وأذى السموم، فضلاً عن الأدوية التي يمكن استعمالها، وتوجد أقدم مخطوطات مترجمة منه بالفاتيكان. كان ابن الجزار يهدف أن يكون هذا الكتاب، عوناً للمسافر وقتها للبلدان التي لا يوجد بها طب متطور، لذلك فكّر في أنّ الشخص المسافر أو حتى المقيم في موطنه، قد لا يكون معه المال الكافي لاستشارة الطبيب، أو شراء العقاقير الموصوفة له.