في منتصف القرن التاسع عشر، لم تكُن دواخل أو مجاهل القارّة الأميركية قد اكتُشفت بعد. ولكن الأوروبيّين اكتشفوا - بعد الثورة الصناعية وتطوُّر وسائل المواصلات والحنين إلى الماضي الحضاري (اليوناني والروماني) وبروز أدب الرحلات المصحوب بالرسوم عن تلك المناطق في حوض المتوسّط الذي أصبح مرغوباً مِن القراء - اكتشفوا أنَّ هناك "أميركا مجهولة" في وسط أوروبا: ألبانيا. وكان المؤرِّخ إدوارد جيبون قد اعترف في كتابه "انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية" الذي صدر في 1807 بأنَّ "ألبانيا مجهولة كما هو الأمر مع مجاهل وسط أميركا".
هذه الملاحظة دفعت الكثيرين من الكتّاب ليقوموا باكتشاف ألبانيا أو "مجاهل وسط أميركا الأوروبية"، وهو الأمر الذي ترافق مع التنافس الإنكليزي الفرنسي على حوض المتوسّط وتزايُد الاهتمام بأدب الرحلة واللوحات المرفقة التي كانت تعبّر عن الفن الاستشراقي الجديد. ولتأكيد هذه الصورة المذكورة عند المؤرّخ جيبون، كان جمهور القرّاء ينتظر بدوره كلَّ ما هو غريب وعجيب من تلك المنطقة، وهو ما لم يقصّر فيه كتّاب الرحلات ليرسّخوا بذلك صورة نمطية عن الألبان والبلقان بشكل عام.
وفي هذا الإطار، لم يكن مِن المستغرب أن يقوم ضابط الاستخبارات الإنكليزي وليم ليك بأوّل رحلة إلى غرب البلقان، أو بلاد الألبان، في 1805، ثم لحقه الشاعر اللورد بايرون وجون هوبهاوس في 1809 اللذان جذبا الاهتمام بما نشره بايرون من شعر وهوبهاوس الذي نشر في 1809 كتابه "رحلة عبر ألبانيا وغيرها من الولايات الأوروبية للإمبراطورية التركية".
في تلك السنوات، كانت طفولة إدوارد لير، الذي كان الولد العشرين لأسرة من الطبقة الوسطى، تتعثّر بالأمراض، إلى أن بدأ اهتمامُه برسم الطيور والحيوانات ثم بالشعر، وتوجَّه أخيراً إلى رسم المناظر الطبيعية في المناطق التي حظيت آنذاك بشغف الأوروبيّين باعتبارها مهد الحضارات (إيطاليا واليونان ومصر وغيرها).
ركّز في لوحاته على ما هو غير مألوف عند الإنكليز
كان الشغف الأول والأخير له إيطاليا التي قام بين عامَي 1842 و1846 برحلته الأولى إليها، وقضى السنوات العشر الأخيرة فيها حتى رحل في التاسع والعشرين من كانون الثاني/ يناير 1888، حيث دُفن في سان ريمو بعد أن خلّف وراءه أكثر من 3500 لوحة بالألوان المائية للبلدان التي زارها (إيطاليا واليونان وألبانيا ومصر إلخ).
وفي ما يتعلّق بألبانيا، فقد قادته الصدفة إليها في خريف 1848، بعد أن وصل إلى سالونيك ووجد أنَّ انتشار الكوليرا قطع طرق السفر باستثناء طريق مقدونيا- ألبانيا. وهكذا وصل أوّلاً إلى مدينة مناستير في التاسع عشر من أيلول/ سبتمبر 1848 وأنجز فيها عشر لوحات، ومنها إلى أوهريد (16 لوحة)، والباسان (8 لوحات)، وتيرانا (4 لوحات)، وكرويا (5 لوحات)، وليجا (لوحة واحدة)، وشكودرا (16 لوحة)، ودورس (لوحتان)، وكافايا (لوحتان)، وبيرات (9 لوحات)، وأبولونيا (لوحة)، وفلورا (لوحة)، وكانينا (لوحة)، وتراجاس (لوحتان)، ودوكات (3 لوحات)، وفونو (لوحتان)، وهيمارا (3 لوحات)، وذرمي (3 لوحات)، وبالاسا (لوحة)، وكانينا (لوحتان)، وفلورا مرّةً أُخرى (لوحة)، وكوذوسيا (3 لوحات)، وتبلينا (3 لوحات)، وأخيراً جيروكاسترا خلال الثالث والربع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1848 (8 لوحات).
في انتظار اختراع وانتشار آلة التصوير التي نقلت الواقع بشكل مختلف، كانت تلك اللوحات التي رسمها لير خلال زيارته للمدن المذكورة أخّاذة في الكشف عن "مجاهل أميركا الأوروبية" التي كانت تتميّز بضوء الشمس وجمالية الألوان، كما كانت تعبّر عن وعيه بمهمّته واعتزازه بكونه "أول إنكليزي يقدّم معطيات عن مرتفعات شمال شرق ألبانيا وكرويا ومحيط أوهريد".
وفي هذا السياق، كان لير يركّز في لوحاته على ما هو غير مألوف عند الإنكليز: الطبيعة الألبانية القاسية والجميلة مع شروق وغروب الشمس، المنشآت الثقافية غير المعروفة التي كانت تُميّز البلقان المختلف عن أوروبا؛ كالجوامع والخانات ونمط البناء في المدن وأزياء السكان التي كانت تبدو غريبة بالنسبة إلى أوروبا الغربية وغير ذلك.
ولم يكتف لير بما رسم من عشرات اللوحات، بل عمد أيضاً إلى تدوين يومياته عن زيارته إلى ألبانيا، والتي نشرها في لندن عام 1851 تحت عنوان "يوميات رسّام للمناظر الطبيعية في ألبانيا"، والتي أعيد نشرها في لندن عام 2008 ضمن تجدّد الاهتمام به بمناسبة مئوية ميلاده الثانية، التي تميّزت بإصدار طابع خاص به وتنظيم معرض للوحاته في تيرانا.
ولكن المهم هنا الصورة التي يقدّمها لير المثقّف الفيكتوري المعروف عن مجتمع أوروبي مختلف و"متخلّف"، وهو سيساهم بذلك في ترسيخ صورة نمطية عن البلقان المحسوب على القارة الأوروبية، ولكنه يبدو خارج هذه القارّة بثقافته المختلفة.
وهكذا على عكس اللوحات الساحرة عن طبيعة البلاد الجميلة، يقدّم لير في يومياته صورة مختلفة عن المجتمع الذي يسكن في "بلد بطبيعة وحشية" و"أماكن عجيبة" ويتميّز بمجموعات إثنية "متنازعة" تعبّر في مجموعها عن "عرق متوحّش". وعلى عكس اللوحات الجميلة عن المدن التي زارها، يرسّخ في يومياته صورة نمطية عن بلقان مختلف بذكره لـ"مدن فقيرة ومقزّزة" و"قذارة الخانات" و"النظرة الخشنة والمتوحّشة للسكان" المحليّين تجاه أمثاله الأوروبيّين القادمين من الطرف الآخر للقارّة.
رسّخ صورة نمطية عن البلقان المحسوب على قارّة أوروبا
في هذا السياق، يذكر مشهداً مؤثّراً حول تجمُّع الناس حوله في مدينة إلباسان بوسط ألبانيا حين رأوه جالساً يرسم في وسط المدينة. فقد أثار شكوك السكّان الذين لم يعتادوا على رؤية أوروبي يرسم مدينتهم، فثارت شكوكهم وبدأت الصرخات حوله "شيطان، شيطان!"، ثمّ تحوّلت الصرخات إلى اتهام له: "الفرنجي روسي، أرسله السلطان ليصوّرنا كي يبيعنا لاحقاً إلى روسيا!". ثم تطوَّر الأمر مع تعاظم الحشد حوله، حيث أخذ الناس يضعون أصابعهم في فمهم ويصفّرون "كما يفعل صبيان اللحامين في إنكلترا".
ومن الواضح هنا أن لير كان يحرص على تلبية رغبة القرّاء آنذاك الذين أقبلوا بقوّة على كتب الرحلات المصحوبة باللوحات ليتعرّفوا على أرجاء مجهولة من العالم، مع ما يصاحب ذلك من تركيز على "الغرائب" و"العجائب" و"دونية" تلك المجتمعات بالنسبة إلى الثقافة الفيكتورية الموجودة في إنكلترا التي كانت تمنح الإنكليز الشعور بالتفوُّق. وبغضّ النظر عن ذلك، فقد كان لير وبقي رسّاماً معروفاً نجح في لوحاته أكثر بتعريف الأوروبيّين على "مجاهل" قارّتهم التي لم يكونوا يعرفون عنها شيئاً حتى مطلع القرن التاسع عشر.
لقد تصادف أن يقوم لير بجولة في المناطق والمدن التي زارها قبله الرحّالة العثماني أوليا جلبي بحوالي 200 سنة ووصفها بصورة مختلفة تماماً تقوم على الإعجاب بما شاهده. ولكن بالمقارنة مع جلبي الذي لم يكن يُحسن الرسم، تفوّق لير بتوثيق مشاهد ومنشآت عثمانية جميلة تعرّضت لاحقاً (خلال الثورة الثقافية في عهد أنور خوجا خلال 1967-1970) إلى الهدم، وبذلك بقيت تلك اللوحات تحتفظ بقيمتها حتى الآن للتعريف بجانب ثقافي لم يكن معروفاً أو مألوفاً في بقية أوروبا.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري