إسماعيل شموط.. في غزة قبل سبعين عاماً

18 ديسمبر 2023
إسماعيل شموط (1930 – 2006)
+ الخط -

في "نادي الموظّفين" بمدينة غزة، أقام إسماعيل شموط معرضه الأول عام 1953 وهو لا يزال على مقاعد الدراسة في "كلية الفنون الجميلة" بالقاهرة، وحمل المعرض رمزيته لكون صاحبه واحداً من جيل الروّاد الذين أسّسوا الحداثة الفنية في تاريخ الحركة التشكيلية الفلسطينية.

كما أنه كان أول معرض معاصر لفنان فلسطيني في مرحلة شكّلت النكبة الموضوع الأساس الذي شغل العديد من المنتمين إلى ذاك الجيل، حيث يُشير الناقد والفنان التشكيلي والمؤرّخ الفلسطيني كمال بُلّاطه في مقال له بعنوان "الفن" ضمن "موسوعة الفلسطينيين" (2000) التي حرّرها فيليب مطر، بأن هناك فنّانين فلسطينيّين تولَّوا الدور التقليدي للشاعر السياسي فاستخدموا تعابير بصرية لإعادة صياغة الخطاب السياسي، من بينهم: إسماعيل شمّوط (1930 - 2006)، ومصطفى الحلاّج (1938- 2002)، وناجي العلي (1937 - 1987). 

ويضيف "كبر ثلاثتهم في مخيمات للاجئين، فاستقر شمّوط في مخيم للاجئين في غزة بعد أن ارتحل مشياً على الأقدام من بيته في مدينة اللد، وانتهى المطاف بالحلاّج والعلي في مخيمات للاجئين في دمشق وصيدا بعد أن تم تدمير قريتيهما سلمة والشجرة على التوالي. حصل شمّوط والحلاج على منح دراسية في مصر، أمّا العلي، فقام بتعليم نفسه بنفسه".

أول معرض معاصر لفنان فلسطيني في مرحلة كانت النكبة موضوعها الأساس

في معرضه الأول الذي شاركه فيه شقيقه جميل، عرض شمّوط ستين لوحة بقي بعضها حاضراً في الذاكرة الفلسطينية، نظراً إلى قوتها التعبيرية في توثيق الملحمة الفلسطينية التي شكّلت النكبة محطّة أساسية، حيث هجّر شعبٌ قسراً من بلاده لتحلّ مكانه عصابات إرهابية صهيونية أنشأت كياناً مخترعاً من العدم، وستظلّ هذه اللوحات مؤثرة في الأجيال اللاحقة حتى اليوم.

يوضّح بُلّاطه بأن شموط من بين الثلاثة (الحلّاج والعلي) "حصل على أعلى تقدير رسمي لاستيعابه المجازات اللغوية التقليدية وقيامه بنقلها إلى صور بصرية، وأصبحت النسخ الملونة لرسوماته الوطنية المباشرة بمثابة أيقونات معلقة في أغلب البيوت والمؤسسات الفلسطينية في المخيمات وسواها. أما الطباعة الحجرية الخاصة بالحلاّج فكانت ذات سمة شخصية أكثر: أشكال سوريالية لرجال ونساء وبهائم تحكي بشكل خيالي سرديات مواربة. أما ناجي العلي فاستخدم الفن الساخر من خلال أسلوب الكاريكاتير السياسي الذي يزاوج بين الرسم والكلمات من أجل الوصول إلى الناس في كل العالم العربي. وانتهت سيرته المهنية الاستثنائية التي امتدت عبر خمسة وعشرين عاماً فجأة حين تم اغتياله في شارع في مدينة لندن".

لوحة "جرعة ماء" لإسماعيل شموط
لوحة "جرعة ماء" لإسماعيل شموط

في لوحة "جرعة ماء" التي عُرضت في غزّة عام 1953، يظهر فيها حشود اللاجئين وهي تخرج من أرضها عطشى فيما يمنع عنها الصهاينة الماء، والتي دوّنها شموط في شهادة عن تهجيره، يأتي فيها "وبدأنا نخرج من المدينة (اللدّ) باتجاه الجبل، واشتدّ العطش وبدأ الناس يبحثون عن الماء. وصلنا بيارة لآل حسونة، كنا سبعة أنفار أمي وأبي وأخوتي وأخواتي، تطوعت أن أحضر الماء، وجدت في البيارة إبريقاً وفتحت صنبور الماء فتدفقت المياه فإذا بعشرات العطشى يتدفقون. داهمنا جيب عسكري بصورة غير متوقعة، ترجل منه جندي أو ضابط، وأشهر مسدساً وكنت قد ملأت الإبريق ولم أشرب لأني حملته كي تشرب أمي وإخوتي الصغار، فقال لي كلاماً لم أفهمه ولكن فهمت من حركة يده أن أسكب الماء على الأرض، قلت له ماذا؟ فكرر أمره الصارم وهو يشهر مُسدّساً، أن أسكب الماء، ولم يكن أمامي خيار آخر، سكبت الماء على الأرض قبل أن أشرب ومنَع العطشى الآخرين من الشُّرب وطردهم. فقد وضعنا مسدّسه وأسلحة الجنود الآخرين في الجيب بين سكب الماء على الأرض وبين سفك دمائنا. واصلت المشي مع الطابور الضخم حيث أصبحنا نسير في الجبال بدون طريق وفي منطقة وعرة، وكنا نصعد جبلاً ونهبط وادياً إلى أن وصلنا إلى منطقة وجدنا فيها آباراً قديمة مهجورة وحولها حشائش خضراء فأخذ بعض الناس يمضغون هذه الحشائش عسى أن يحصلوا على قطرة ماء. بدأ الناس يركضون وكنت أحدهم.

أصبحت النسخ الملوّنة لرسوماته الوطنية المباشرة بمثابة أيقونات معلّقة في أغلب البيوت والمؤسسات الفلسطينية

ويضيف "عشرات العطشى، تحلّقوا حول فتحة بئر رأينا في قاعها ماء يبعد حوالي عشرة أمتار. لكن المشكلة كانت كيف نخرج الماء، فبدأنا بجمع أحزمة وملابس وصنعنا حبلاً واستطعنا أن نخرج بعض الماء وهو عكر لونه أحمر، ونتيجة التدافع تراشق بعض الماء فتبلل قميصي وضعت الماء تحت قميصي وركضت إلى أن وصلت أمي التي أشرفت على الموت من شدة العطش ناولتها الماء، وبدأتُ وشقيقي بإبعاد الناس الذين تجمهروا حولنا لما شاهدوا جرعات من الماء فإذا أحدهم يمتص الماء من قميصي المبلول حتى يحصل على نقطة ماء. وقد رسمت لوحة صوّرت العطش وسمّيتها 'جرعة ماء'".

لوحة "إلى أين" لإسماعيل شموط
لوحة "إلى أين" لإسماعيل شموط

في لوحة "إلى أين" من المعرض نفسه، يرسم شموط رجلاً مُرهقاً منهكاً يسير مع أطفاله، أحدهم فوق رأسه واثنان على يمينه ويساره، وقدّ أنهكما التعب، وتبدو نظرة أحدهما محمّلة بالحيرة والتساؤلات؛ تساؤلات الفلسطيني وهو يُشرّد من أرضه إلى الشتات.

شهادةٌ واصل شموط روايتها باللون والخط والصورة بأسلوبه الواقعيّ التعبيريّ في لوحات تستعيد أحداثاً عاشها في فلسطين قبل اللجوء، أو تقدّم واقع اللجوء في المخيّمات، ومجزرة تل الزعتر، وكذلك توثّق للانتفاضة الفلسطينية عام 1987، وأخرى تمزج بين بعد ذاتي شخصي وبين محطّات بارزة في التاريخ الفلسطيني، إلى جانب ما قدّم من مؤلفات ومنها "موجز تاريخ فلسطين المصوّر"، و"تاريخ وحضارة"، و"الفن التشكيلي في فلسطين"، ومن أفلام وثائقية مثل "ذكريات ونار"، و"النداء المُلحّ"، و"على طريق فلسطين".
 

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون