استمع إلى الملخص
- **دور إلياس خوري في حياتها**: أصبح خوري صديقًا مقربًا وداعمًا رئيسيًا، حيث شجعها على الكتابة ومنحها فرصة الكتابة في ملحق النهار الثقافي، مما ساعدها على تجاوز أزمتها.
- **إرث إلياس خوري الأدبي والنضالي**: كان خوري كاتبًا ومناضلًا شجاعًا، كتب روايات مهمة ودافع عن المظلومين، وترك وفاته فراغًا كبيرًا في حياة الكاتبة.
تعرّفتُ إلى إلياس خوري في أحلك لحظة في حياتي. كنت أسقط وأواصل السقوط بعد حادثة انتحارٍ أقدمتُ عليها، ولم يتمكّن أحد من انتشالي منها إلا هو. ذهبتُ إليه في حزيران/ يونيو عام 1993، وفي يدي روايته "مملكة الغرباء"، وفي اليد الأُخرى عدد مُلحق "النهار"، وفيه مقال عن الرواية بقلم رالف رزق الله الذي انتحر بعد ذلك بعامين. أتت ابنتي أمل تحمل بيدها مُلحق "النهار" الأسبوعي، وقالت: "ماما، إنهم يكتبون عنك!"، كان أول ما قرأت سؤالاً يطرحه رالف: "من هي سيدة الدخول إلى مخيّم شاتيلا؟". فالرواية تتحدّث عن الغرباء وعن علي أبو طوق بطل حرب المخيّمات، والذي كنتُ دخلتُ إلى مخيم شاتيلا للاطمئنان إليه نيابة عن زوجي أبو أحمد، صديقه ورفيق درب النضال في كتيبة الجرمق، التي تشكلت من تيار وطني داخل "حركة فتح" وحمل اسم "الكتيبة الطلابية". كان الدخول إلى المخيم أمراً خطراً في تلك الأيام السوداء التي تقطعها هُدن بسيطة ليعاود الحصار خنق فلسطينيي وفلسطينيات المخيمات داخل أسواره. ولأنني دخلتُ خلسة، وكانت ابنتي الصغيرة لا تزال تذكر ذلك، كان أول ما خطر ببالها وكانت في سن الرابعة عشرة أن المقال يتحدث عنّي، خاصة أن الرواية تتحدث عن مريم، في سياق الرواية كاستعارة لمريمات يسوع السبع اللواتي أحطن بحياة الناصري، ثم ينتقل فجأة للحديث عنها بوصفها أم أحمد وبأنها دخلت خلسة إلى مخيم شاتيلا.
وقفتُ في مكتبه وأنا أقول: "هذه ليست أنا. والقصة ليست هكذا وأنا ألوّح بالرواية في يدي". صدم يومها وقال: "هذه ليست شخصية حقيقية، إنها محض خيال". "لا إنها أنا" وأضفتُ: "ولكن لست أنا، ولم تحدث القصة هكذا ولست على علاقة بعلي أبو طوق، إنه مجرد أخ ورفيق درب النضال وبطل في زمن عزّت فيه البطولات". كان سبق أن أخبرتني صديقتي أن إلياس خوري كتب عنّي وعن علاقتي بعلي أبو طوق. قلت يومها: "وهل هكذا تفسرين محبتي لعلي أبو طوق؟ ألا يوجد لديك تفسير آخر بوصفه بطلاً من بلادي أقدّر تضحياته وشجاعته وتعزيزه لصمود شعبنا في المخيمات؟"، كنت أتحدث عنه بفخر وتقدير وحماس. حين اجتمعت كل تلك الإشارات ومن ثم قرأت الرواية قبل أن أطلب موعداً للقاء إلياس خوري، كدتُ أقتنع تماماً بأنه يتحدث عنّي. لكن القصة التي كتبها ليست قصتي، ولربما أخبره أحد- اعتقدت يومها- عن دخولي خلسة إلى مخيم شاتيلا، ومن ثم ملاحقة المخابرات السورية لي حين خرجت. وأعدتُ تكرار قولي "هذه ليست أنا والقصة ليست كذلك"، وانهرت بالبكاء على الكرسي وهو يؤكد أنها قصة من محض خياله ولم يخبره بها أحد.
ثم بدأت أخبره عن معين الطاهر والكتيبة وأبو خالد جورج وسعود المولى كي يدرك أنني لا أحاول أن أوقعه في فخ ما، وأنني كنت ضمن هذا التيار الذي كان هو نفسه من شبابه، كي يطمئن إليّ ويخبرني الحقيقة؟ ثم ما لبثت أن انهرت كلياً وأخبرته عن محاولة الانتحار التي لم يكن قد مضى عليها أكثر من أسبوعين. تجمّعت كلّ الانكسارات الشخصية والوطنية لتجعلني أقع في هاوية سحيقة، لم تكفِ جهود الطبيب النفسي ولا أدويته لإخراجي منها. أنقذوني أو هكذا ظنوا، لكني لم أجد سوى "محض صدفة" إلياس خوري التي كانت البداية لي للخروج من هذا السقوط المدوّي. منذ ذلك اليوم، لم ينفك يتصل بي يومياً ليطمئن إلى حالي. أمسك بيدي، ومنحني فرصة الكتابة في ملحق النهار الثقافي، كما مشاهدة عروض مسرح بيروت، ووجدت نفسي بعد أشهر من مكابدة الآلام أقف على قدمي وأنهي رسالتي عن طه حسين في جامعة القديس يوسف. وإن كان ثمة من أوقف رغبتي بالموت والتحرّر من آلامي، فكان إلياس خوري. وتطوّرت صداقتنا مع الوقت لتغدو أكثر قوة وجذرية بعد أن انفض عنّي الأصدقاء هرباً من عجزهم عن مساندتي في محنتي النفسية. وإن كنت أدين لأحد في حياتي فإني أدين إليه بها. وأدين له بتشجيعي على الكتابة الروائية بسبب إعجابه بأسلوبي في كتابة التحقيقات الصحافية.
لكنهم لم ينتصروا لا بقتل أهلنا في فلسطين ولا بموتك
كانت صداقة من نوع فريد، وأكثر من مجرّد تعارف جمعته "محض صدفة" في رواية غريبة، وفي مملكة كنت أنا أحد غربائها. وهو أيضاً.
كان غريباً في بيئة الثقافة التي لم تخلُ من النفاق وحب الظهور وازدواجية المعايير. ولكنه كان ثابتاً لا يحيد عن قول كلمة حق من أجل المظلومين. وكان أشجع من عرفتهم أو قرأت لهم من عمالقة الكتابة والأدب والشعر والفكر. كنا نلتقي بشكل دائم ونتبادل الهموم والأفكار، الخاص منها والعام، وحين سافرتُ إلى دبي بقينا على تواصل دائم، وكان تطابق المواقف من أي حدث يجمعنا حتى لو كنا بعيدين عن بعضنا البعض آلاف الكيلومترات. لم أره يوماً يحيد عن قول الحق أو الحقيقة ولو كلّفه ذلك حياته. كنت أخاف عليه أحياناً من نفسه ومن شجاعته النادرة، ولكنه لم يكن يتراجع، حتى حين يخوض صراعاً فكرياً حادا يصل إلى حد التحول إلى صراع شخصي ونفور من أولئك الذين لا يتورعون عن الانحراف عن درب الحقيقة، حتى مع رؤسائه في العمل ولو كلفه ذلك خسارة عمله وليس حياته فقط، وهو ما حصل في النهاية مع جريدة النهار. كان لا يساير في ذلك أحدا، حتى لو كان أعز أصدقائه. وفي المقتلة السورية كان صوتاً سورياً لم يتزحزح قيد أنملة عن نصرة الشعب السوري، فكان نبله ناصعاً كالشمس في وضح النهار، حين سقط الكثيرون في تبرير عنف النظام بوصفه يواجه (كذباً) الحركات الأصولية لا الثورة. الثورة التي كشفت الغث من السمين من عمالقة الفكر والنضال والثقافة. ولكن فلسطين ظلّت في قلبه في كل المواجهات الفكرية والسياسية التي خاضها، وجعل من نفسه ابناً أصيلاً لها، لا متبنى.
حين اتصلت بي ابنتي رنا تلميذته ومساعدته في تدريب الشابات والشبان الفلسطينيين على الكتابة الإبداعية في مبنى مؤسسة الدراسات الفلسطينية، كانت تجهش ولا تعرف كيف تقول سوى تلك العبارة "مات إلياس". لم أعرف كيف أشعر أو ماذا أقول. تسألني متى الدفن وأنا أقول عرفت منك الآن أنه مات. هي تنوي القدوم من أوسلو للمشاركة في العزاء، فقد كانت هي أيضاً صديقته المقرّبة، بل هو كان بمعنى ما صديق العائلة وخاصة ابنتيّ رنا وأمل. هما تعزيانني وأنا أعزيهما وأصدقائي يعزونني وأنا ما زلت مصدومة، إذ كنت أتوقع أن يشفى وأراه قريبا بعد أن انعزل بآلامه عن الجميع سوى زوجته وعائلته. أفكر الآن في كلّ المحطات التي مررنا بها، وأجد صعوبة شديدة في تخيّل الحياة بدونه، أو تخيّل حياة الفلسطينيين والفلسطينيات من بعده.
ففي رائعته "باب الشمس"، كتب ما لم يكتبه الفلسطينيون والفلسطينيات عن أنفسهم، وتحدى العالم في سرد حقيقة ما حدث، وفضح بأسلوب رقيق وحنون آلام الفلسطينيين والفلسطينيات، وتطرق إلى أمور لم يسبق أن تحدث عنها كبار الأدباء والكتّاب الفلسطينيين والكاتبات أيضاً. وشكلت رواية "باب الشمس" علامة فارقة في كتابة السردية الفلسطينية حتى يومنا هذا. وما لبث أن أكمل السردية بما هو أقوى وأجرأ في ما بعد "باب الشمس"، وختم مسيرته بـ"ثلاثية أبناء الغيتو" التي أنهاها برواية "رجل يشبهني" ويشبه إلياس خوري نفسه، بكل هواجسه الإنسانية والفكرية والأدبية حتى بتنا نحن من نكتب أو نجرّب أن نكتب نسأل أنفسنا: ماذا ترك لنا إلياس خوري أن نكتب؟ كان مجتهداً ومتورطاً بحب فلسطين. لا يكل ولا يمل عن العمل من أجلها. إن في الأدب أم في الصحافة كرئيس تحرير أو في مقالاته الأسبوعية أينما حلّ به المقام في السفير أم النهار. في القدس العربي أم في مجلة الدراسات الفلسطينية أم في أية كلمة يلقيها أو يكتبها في أي ندوة أو مؤتمر هنا في العالم العربي وهناك حيث يروّج الغرب زوراً عن خطاب معاداة السامية كتهمة تطاول كل من يجرؤ على فضح جرائم "إسرائيل". تهمة لم توقفه عن قول الحقيقة في عقر دار شركاء "إسرائيل" في النكبة والانتهاكات المستمرة بحق الشعب الفلسطيني أو الإبادة الجماعية التي لا تزال رحاها تدور الآن في غزة وتمتد إلى الضفة الغربية وربما لاحقا إلى فلسطين المحتلة عام 1948.
كان يكتب من أجلها حين يكتب عن أي حدث أو ثورة إن في سورية أم مصر أم لبنان أم تونس، أم غيرها. بل كانت فلسطين هي الرابط بين كل ما يكتبه أو يفعله من نشاط، رغم أوجاع عينيه بعد إصابته في الحرب الأهلية. رغم جسده المنهك من التعب وهو يتنقل بين مكان عمله ومسرح بيروت أو مؤسسة الدراسات الفلسطينية أو التنقل والسفر حول العالم ليحاضر في الأدب، وكانت فلسطين حاضرة فيها دوماً. فهو ليس مجرّد مثقف أو أديب، إنه إنسان أولاً، ومناضل شريف، وروح تنزف بالحقيقة والكلمة الحرة والمفارقات المدهشة وجرأة الوقوف حتى بقدمين تتعثران من دوار التفاصيل وهو يسير في شوارع بيروت شارداً مهموماً في رواياته. كان يكتب روايات فلسطين بعصارة روحه ونبل فظاظته حين يقارع المنافقين والمنافقات. لا يأبه بمودة زائفة على حساب المعنى الذي شغل حياته في البحث عنه والذي اختار فلسطين عنواناً له.
كانت أوجاعك الأخيرة هي أوجاعنا في جسدك. تقمص جسدك أوجاعنا وفاض بالوجع حتى الموت. توجعتَ كثيراً حين لم تعد الكلمات قادرة عن التعبير، أو وصف ما باتت تعجز الاستعارات أن تُفرد له كلمات تليق بمأساة الإبادة، التي تجاوزت قدرتك وقدرتنا على وصف معاناة ضحاياها كشيء رتيب مثقل بالسأم الوحشي. حسناً. تخلصتَ منها بموت جسدك المنهك وبما بعثرته فيك تلك الآلام، آلام فلسطين وشعبها. حسناً. نَم واسترح قليلاً، فنحن ما زلنا على طريق الجلجلة نفسه نحمل صليبنا، ولكننا مطمئنون ببلوغ القيامة. نم واسترح الآن. تكفيك وتزيد تلك الأوجاع التي أوجعتنا وهي تنهش في جسدك المريض المثقل بالهشاشة.
يؤلمني اليوم أن أكتب عن إلياس خوري كخبر "كان" الفعل الناقص، لأنه لم يكن يوماً غير فعل كامل مكتمل، لكنه اليوم يغيب عنّا ويغيب فعله ونصبح هو من ينقصنا في هذا الذهول المدوي لغيابه. لأن الحياة اليوم لن تكون هي نفسها من بعد هذا الغياب.
لطالما تساءلت ماذا سأفعل إن توفي إلياس ذات يوم؟ وها هو اليوم يموت وما زلت لا أعرف ماذا سأفعل. فالحياة لن تكون كما أعرفها بعد الآن. إنه صديق الروح الذي لا يمرّ يوم من غير أن أفكر فيه وأتساءل ماذا سيكتب الآن عن هذه أو تلك من المظالم والثورات. فمنذ تعرفت إليه عام 1993، وأنا أراه بوصلة الفكر والفعل والأخلاق التي لا تعرف الازدواجية أو الجبن. كانت كلمته "على الأقل" كحدّ السيف، تبزغ كل أسبوع لتدلنا إلى الطريق، كما في "هواء طلق".
غبتَ هكذا فجأة، وعلى لساني ثمة أشياء كثيرة لم أستطع أن أقولها لك. غبت وتركتني يتيمة الصدق والقلب والحقيقة. إلى من أتحدث الآن حين تغلبني الحياة. أبادوك أخيراً في غمرة هذه الإبادة، لكنهم لم ينتصروا لا بقتل أهلنا في فلسطين ولا بموتك، فإرثك سيظل بيننا يشد أزرنا ويمنحنا الصلابة التي نحتاجها في زمن العتمة هذا، وستبقى روحك تتجول في فلسطين حين يتساوى حضورك مع غيابك، فأنت حاضر فيها بحضورك، وحاضر فيها بغيابك.
لن أقول وداعاً إلياس خوري لأنني أعلم أنك لن تتركنا وحدنا وتغيب.
* كاتبة وصحافية فلسطينية