كان بياضاً
كان أنقى بياضٍ رأيتهُ في حياتي،
لم يُحلْني إلى أكفان
لم يفتح باب الموتى في ذاكرتي.
كان منقّطاً بالضوء في أطرافه.
بياض غيمة نَسجَها الجوّ
وعلّقها كي تُلْبسها العين لمن تشاء
كي يمنح الصحو هدية.
تريثتْ عيناي لوهلة
قبل أن أديرهما إلى ظهيرةٍ
تستعرضُ فضّتها فوق وجه المحيط.
أَقْصَرَ من أنفاس موجة وليدةٍ
كان عُمر الغيمة
اختفتْ فجأة
كما لو أن الفراغ شربها صرفاً.
وعلى درب يقودُ إلى الشاطئ
لم أكن أملك إلا عينيّ
وقدميّ، هديتي من الولادة.
رأيت أرنباً رمادياً
عيناه صافيتان كمياه نبع
ثم نسراً يحوم في الأعالي
وطيوراً صغيرة تفرّ من فضائه.
كانت الأرض تُوقدُ ناراً تخضرّ في بداية الربيع
كي تعدّ الوليمة،
ووصلتْ رسائل من طيورٍ
تغريدها كأمطار الشتاء
في أدغال تحاذي الشاطئ.
وكنتُ، أنا العابر شبه اليومي
على ذلك الدرب
أسمع إيقاع أحزاني
في حفيف ينبعثُ من شجرة صفصاف
ثم سرعان ما هبّ هواء مفاجئ
وسمعتُ لهاثي ولهاث الأشياء
كما لو أن كلّ شيء يجري هارباً من نفسه.
■ ■ ■
اسمكَ يتشرد في اللغة
لا تحترم من حياتكَ
إلا لَمع بَرْقها ونيرانها
ومن جسدكَ إلا اندفاعه.
لا تتريث عند نار تنطفئ
لا تمنح البرد فرصةً
أشعلْ ناراً أخرى في أحلامكَ
وفي كلماتكَ،
واحْرسها كي لا تُسْرَق منك.
لا تنحنِ لأحد،
حتى ولو تُركت عارياً في البرد
وتجلدتَ والتصقتَ بالثلوج.
قل كلمتكَ بعد أن تنقّيها،
اغسلْها بماء أيامك
واصقلها بتعب يديك.
لست مضطراً للدخول منحنياً من أي باب،
من الوقوف في أي ظلّ.
رتبتكَ هي الأعلى،
فاجْعلها تتوهّج على كتفيكَ
وعلى جبينكَ
وفي اسمكَ
في هذا السديم
الذي يرثُ فيه الآخرون أسماءهم.
اسمكَ يتشرّد في اللغة
ومثلكَ لا يركعُ
يحملُ خيمته على كتفيه
ويعبرُ الحدود.
■ ■ ■
ثمة من يطفئ النار تحت ساعته
-١-
كانت طفولته سيجاراً مُشْعلاً في فَم تمثالٍ
ثماراً قطفها آخرون
أركعوا المدينة،
شقّوا صدرها
ودفنوا قلبها تحت الأنقاض.
-٢-
صار ذهنه عدّاداً
يُحْصي ما تبقى من ثوان ودقائق وساعات
قبل أن تنشقّ الأرض
أو ينهار السقف.
أذناه مقياسان لدرجات الزلازل
وعيناهُ شرفتان تطلان على الخراب.
-٣-
ثمة من يطفئُ النار تحت ساعتهِ
يقفل الأبواب والشبابيك
ويترك العتمة تتقطّر منه
كما لو أنه مبلّلُ بها.
-٤-
في زمنه،
الشاشاتُ تلتصق بالأعين
كقراد الخيل،
ثم تصغر
وتصير عدساتٍ لها.
-٥-
سيأتي وقت يرى فيه الأرقام
تُزرع كالأعضاء في الجسد
سيأتي وقت
ينام فيه ويستيقظ،
يأكل ويشرب
يعيش ويموت
وهو يركض.