اجتذبت الحرب الإسرائيلية - الأميركية على غزّة دعم العديد من المثقّفين في أوروبا والولايات المتّحدة. وهذه ظاهرة تُعبّر عن أزمة ثقافية وحضارية، هي ليست غريبةً، لا سيّما في ظلّ الوضع الدولي الراهن، والتحوّلات التي شهدتها القضية الفلسطينية في العقود الأخيرة، وصعود اليمين المتطرّف في أوروبا.
يخطئ هؤلاء المثقّفون الغربيون كثيراً إذا لم يلاحظوا أنَّ الثقافة، بوصفها نشاطاً إنسانياً خلّاقاً، تُختزل وتضمحل في مجتمعاتهم. وليس ذلك بفعل الرقابة السياسية التي تمارسها المؤسَّسات الإعلامية الكبيرة والصانعة للقرار فحسب، وإنما - وهذا هو الأكثر خطورة - بفعل إرادة ذاتيّة وانصياع كامل عند هؤلاء المفكّرين والمثقَّفين. ويمكن تلخيص ظاهرة اضمحلال الثقافة هذه في ثلاثة أشكال.
يتجسّد الشكل الأوّل في تبرير "المثقّفين" و"المفكّرين"، الذين يساندون هذه الحرب تحت شعار "محاربة الإرهاب"، ما ترتكبه "إسرائيل" من جرائم ضدّ حقوق الإنسان، وضدّ القيم والمبادئ الأوروبية نفسها التي تملأ كتبهم. وقد عبّر بشكل واضح عن هذا الموقف الروائي الإسباني أرتورو بيريز ريفيرتي، الذي لم يتردّد في الوقوف إلى جانب "إسرائيل" داعماً إيّاها في حربها؛ فالإسرائيليون، على حدّ تعبيره، "مهما فعلواً يبقون منّا، ويشاركوننا قيمنا الديمقراطية". إنه التسويغ مبدأً والاستباحة منهجاً.
الشكل الثاني هو تهميش ونبذ المثقَّفين الذين لا يساندون الحرب، أو لديهم نظرة أُخرى حول طبيعة صراع الإنسان الفلسطيني. أمّا الشكل الثالث، وهو في غاية الخطورة، فيتمثّل في وضع الثقافة نفسها في خدمة الابتذال والدعاية، بجعلها جزءاً من الماكنية الإعلامية. والجميع يعرف سيطرة اللوبيّات الصهيونية على هذه الماكينة، التي، بطبيعة الحال، لا تنتج ثقافةً، بالمعنى العميق للكلمة.
المجتمعات، مهما تقدّمت وتطوّرت، حين تصير الثقافة فيها أداةً لخدمة السياسة، وتُستعبد كلمتها الحرّة، لا تنتج إلّا الطغيان. وهي بذلك تخون المبدأ الأوّل الذي يحرّك القيم: الإنسانية.