"الأفعوان الحجري" لنوري الجرّاح: سيرينادا شرقية لفارس تدمري

03 ديسمبر 2022
نوري الجرّاح في قلعة العربية بساوث شيلدز في بريطانيا، تشرين الأوّل/ أكتوبر 2022 (بانيبال)
+ الخط -

يختار الشاعر السوري نوري الجرّاح (1956) هذه المرّة ضريحاً أقامه قبل ألفي عام ضابط تدمري لزوجته السلتية، وسط الجزيرة البريطانية، ليبني من خلاله عالماً مدهشاً، سكبه في مجموعته الشعرية "الأفعوان الحجري: مرثية برعتا التدمري لمحبوبته ريجينا"، الصادرة مؤخّراً عن "منشورات المتوسط" في ميلانو، ولتضاف إلى مجموعات سبقتها مثل "رسائل أوديسيوس" (2009)، و"قارب إلى لِسبوس" (2016)، و"لا حرب في طروادة: كلمات هُومِيروس الأخيرة" (2019).

يؤسّس الجرّاح في عمله الجديد، عبر مُجادَلة الشعرية اليونانية القديمة، لملحمية مُعاصرة تحاول أن تواكب التراجيديا السورية التي تجاوزت حساسيات القصيدة العربية الحداثية، وتوقّفت عند عدد من الأسماء والرموز المعروفة. ولذلك يبدو الجرّاح مشغولاً بشكلٍ ولغةٍ جديدين يستفيدان من تراث المتوسّط الشعري المكتوب باليونانية، من ملاحم هوميروس (850 ق. م)، إلى إبيغرامات ميلياغروس الجداري السوري (من شعراء القرن الثاني قبل الميلاد)، مستلهماً رموز التاريخ السوري القديم.

وقد كتب الناقد خلدون الشمعة في الغلاف ما يوجز جانباً من القيمة الشعرية التي رآها في العمل: "في هذه الملحمة الجسور، تكمن رحلة شعرية مُبتكَرة لملمحٍ مقموع عادةً، ملمح مسكوت عنه أو ربما منسيّ كلّياً في التراثين الأدبي الإنكليزي والعربي. والحال أنّ كلا التراثين لا يمكن أن يُقَيَّما نقدياً أو يُنظَر إليهما على النحو نفسه، بعد الآن، في ضوء هذا الأثر الشعري".


شجَنٌ نبيل

كشفت التنقيبات عن ضريح ريجينا في عام 1878 بالقرب من "حصن أربيا" Arbeia الواقع في منطقة ساوث شيلدز في الشمال الشرقي لبريطانيا قرب سور هادريان الشهير. وبيّنت الكتابات التدمرية واللاتينية أنّ باني ضريح السبية السلتية ريجينا هو تدمري يُدعى برعتا أحبّ هذه الفتاة المستعبدة وحرّرها وتزوجها، ومنحها اسماً رومانياً يعني الملكة، وعاش معها، ودُفن إلى جانبها حين مات.

ويبدو أنّ فرادة هذا الضريح وجماله، ووقوعه في منطقة مواجهات حربية بين القوات الرومانية والقبائل السلتية، قد شحنا مخيّلة الشاعر، المقيم في الجزيرة البريطانية منذ أربعة عقود، لكتابة هذه المرثية المطوّلة المليئة بالشجن النبيل؛ حيث يقول في ختام المقطع الأول: "يا لَهذهِ الأرضِ الأَبعد من كُلِّ أرضٍ؛ حتى لكَأنَّ آلِهَتِي لم تعُد لها عُيونٌ لِتراني".

يؤسّس لملحمية مُعاصرة تحاول مواكبة التراجيديا السورية

هذه النبرة المتفجّعة والغريبة حقّاً، من ضابط يُفترض أنه يقاتل على أرض غريبة عنه كتدمري أوّلاً، وكروماني ثانياً، لا تبدو مفهومة للوهلة الأولى، فهل من المعقول أن يتحسّر جندي على عدوّه المقتول، والمقصود هنا المقاتلين السلتيين (البرابرة)، كلّ هذه الحسرة؟

في مقطع لاحق، يعود الشاعر ليفاجئنا باستعراض مشهد مهيب لمعركة تدور في المكان: "أَطوفُ بحصاني السرتِّي، الهَواءُ الباردُ يَلفح عُرفه الأَسيل، الهواءُ المُبلّل بدماءِ المَوشُومين المُتدافعين يَصفعُ وجهي، وهؤلاء التّدمُرِيُّون الشجعَانُ يُوَتِّرُونَ الأَقواسَ في الحُصون والأبراج، ويموجُونَ على عرباتٍ تحملُ الدروع والحراب والرايات".

هذا المشهد، رغم تفاصيله التي تخصُّ معركة مع البرابرة السلتييّن، يبدو من حيث البناء وكأنّه يستعيد معركة سوف تندلع في زمن لاحق، يتصدّى فيها أحفاد هؤلاء الجنود التدمريّين لقوّات جنرال روماني، هو أورليانوس، حضر لتدمير مدينتهم، ويريد أن يذيقهم من الكأس نفسها التي أذاقوها لأهل الأرض الأصليّين من برابرة السلتيين. ولذلك يقول معتذراً: "لستُ حامل بيارِقَ، ولكنَّني تاجرُ أَقمشةٍ من الشرق. ولئن تركتُ سَيفيَ عِنْدَ النَّهْرِ، فليُباركَ البعلُ خُطوتي إلى البيت، وليصفحَ عن إثم يدي".


حبّ وتطهّر

ولذلك يغدو حبّ برعتا لهذه السبيّة السلتية المُحرَّرة ريجينا، ورثاؤه لها بهذه الفجائعية، وكأنّه تطهير للذات من دنس يقلق مضجعه، ويُعذِّب ضميره، فينحاز في هذ الرثاء إلى جانب من قاتلهم وقتلهم، ويعلن موقفاً لا لبس فيه من روما التي دفعت أبناء الشعوب المختلفة الخاضعة لها لأن يكونوا أدوات للقتل والاحتلال: "خمسونَ أَلفاً من شُبّان الولايات البَعيدة ابتلعهمُ التنين برُؤوسهِ السبعةِ المُطلَّةِ على الجهات: صنَّاعٌ ومُزارعون ورُعاةٌ وصيَّادُون، ظهرُوا بالزُّرود وراء دروع مُصفَّحة، وتباهَوا بخوذات لمّاعة خطفت أعرافُها الحمراءُ أَلباب الريفيَّات. بطالمة مرتزقة من مصر؛ أيطُوريون من سورية؛ أفارقة كانوا مُصارعين؛ وأسبارطيون مُتهَوِّرون، طحنت عظامَهم أضراسُ الغابات، ودفنتهمُ الأمطار والسيول. يا لوهم العظمة! ويا لشعلة النار بعد بلغةِ السيف!".

أيّ فاجعة أشدّ هولاً من هذه الفاجعة؟ وأيُّ مصير أشدّ قتامة من هذا المصير الذي يشبه مأساة السوري المعاصر المشرّد في الغابات والبحار، والذي يخوض معارك عبثية، ضاعت فيها الحدود بين أن يكون ضحية أو جلّاداً؟ قاتلاً أو مقتولاً؟ صاحب حقّ أم معتدٍ، ضحيّة أم مرتزقاً؟ والحقّ أن هذه الأسئلة الشائكة التي تواجه قارئ هذا الديوان، لا تعطيه جواباً شافياً، بل تتركه أسير الحيرة والعذاب.

الأفعوان الحجري - القسم الثقافي

بعد المرثية الفجائعية، وبالأسلوب الملحمي ذاته، يقدّم الشاعر مجموعة من القصائد الشبيهة بـ"الإبيغرامات الميليغرية". فتجده يلتقط لحظات إنسانية مُحمّلة بالرموز التاريخية والميثولوجية، عن انتظار سفن الصيف المحمّلة ببضائع التجّار الفينيقيّين، وعن رامي قوس تدمري أعطى ربع قرن من حياته للقتال في هذا "الهواء اللاسع"، متحسّراً على مصيره، وموته بعيداً عن مدينته تدمر. في هذه القصيدة يمضي الشاعر إلى أقصى مدى ممكن في توظيف المشهدية العسكرية الرومانية، لكي يوصل لنا حسرة المقاتل التدمري "المتدثّر بلحاء الشجر".


بين زنوبيا وبوديكا

في قصيدة بعنوان "بوديكا"؛ نسبة إلى تلك الملكة السلتية البريطانية التي قادت انتفاضةً ضدّ القوّات الرومانية زمن نيرون ما بين 37 - 68 للميلاد، ورحلت بعد فترة قصيرة من فشل ثورتها، يبدو الشاعر وكأنه يدغم صورة هذه الملكة بملكة تدمر زنوبيا التي لقيت مصيراً مشابهاً، تتعدّد فيه الروايات عن نهايتها المأساوية، ولا نصل إلى يقين سوى أنّ روما سحقت ثورتها.

ويختار الجرّاح من حياة الملكة السورية جوليا دومنا أصعب لحظة يمكن أن تعيشها أمّ، وهي قطْع أصابعها وهي تُدافع عن فلذة كبدها الذي قرّر شقيقه أن يقتله، فالدم هنا ليس دم الأخ المقتول، بل دم الأُمّ الذي سال، وكأنّ الشاعر رأى في جوليا دومنا سورية الآن، الجريحة النازفة في قتال الأخوين.

رثاء لعوالم وثقافاتٍ تضمحلُّ اليوم تحت عولمة جديدة

وفي القصيدة الأخيرة "مرسوم كاراكلا"، يرسم الشاعر صورة قد تبدو شديدة القتامة عن محو الهويات تحت مسمّى المواطنة، وربما عن قتل الاختلاف تحت مسمّى المساواة، وكأنه يرثي عوالم وألواناً وثقافاتٍ تضمحلُّ اليوم تحت وطأة عولمة جديدة يبدو البشر فيها أشبه بمُمثّلين هزليّين بلا ملامح. لكن الجدير بالملاحظة، لمَن عرف عن الأدوار التي لعبتها السلالة السيفيرية (نسبة إلى سبتيموس سيفيروس) في الإمبراطورية الرومانية، هو ما أدخله السوريّون من قوانين جديدة مدّت في عمر الإمبراطورية، عبر التحديثات الحقوقية والتنظيمات الإدارية التي أتاحت للأُمم الخاضعة أن يكون لها حضورٌ في إطار الإمبراطورية. ثمّة إشارات عديدة إلى ذلك في الكتاب.

على الرغم من أنّ ديوان نوري الجرّاح يستلهم رموزاً ومفردات وأحداثاً تنتمي لحقبة من تاريخ الإمبراطورية الرومانية، كان السوريون فيها فاعلين ومنفعلين، قتلة وضحايا، حكّاماً ومحكومين، إلّا أنه استلهام معنيٌّ بأسئلة اللحظة السورية الراهنة التي غاب عنها اليقين.

ولئن ركّزت هذه المقالة على موضوعات الديوان، فهي لا بدَّ أن تنوّه بالبُعد الإنساني والمثاقفة في نصوصه الشعرية الأخّاذة، غير المألوفة في الشعر العربي اليوم، ولذلك نترك هذا الجانب، لنقّاد الشعر ومؤرّخيه وذوّاقته ليتناولوا هذا البعد في عمل طَموح إلى أبعد الحدود.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون