"الإخوة الأعداء" لحسن المودن.. من عقدة أوديب إلى عقدة قابيل

05 سبتمبر 2023
حسن المودن
+ الخط -

ما هي العقدة الأصلية المتجذّرة في النفسية الإنسانية؟ هذا هو السؤال المركزي الذي يُحاول الباحث المغربي حسن المودن الإجابة عنه في كتابه الجديد، الصادر عن "دار كنوز المعرفة" في الأردن، "الإخوة الأعداء في السرد العربي والغربي: مقاربة نفسية جديدة". العملُ المقسَّم إلى ثلاثة فصول، يعالج نصوصاً دينية وأدبية، عربية وغربية، قديمة وحديثة، يحاول المودن من خلالها، إعادة التفكير، على المستويين المنهجي والمفهومي، في التراث النظري للتحليل النفسي، الذي خلَّفه سيغموند فرويد. 

على المستوى المنهجي، يَفْترض الباحثُ أنّ أهم درس يمكن تعلُّمه من مؤسِّس التحليل النفسي هو أسبقيةُ النصوص، أدبيةً كانت أم دينية أم أسطورية، على النظرية والتصوُّر والمفهوم، وهو ما يجعل الإصغاء العميق إلى النصوص أَولى من التعسُّف عليها بإسقاطات غير ملائمة، بمبرّر الصرامة المنهجية. أمّا على المستوى المفهومي، فينطلق من أنّ انفتاح النصّ وديناميته تجعلانه مجالاً خصباً لتوليد مفاهيم وبناء تصوُّرات تُسهم في تحسين فهمنا للذات الإنسانية ولُغاتها المتنوّعة، وتخصيب العُدّة المفهومية لنظرية التحليل النفسي بما يُخرجها من العُقم ويُعزّز كفاءتها التفسيرية في قراءة النصوص والواقع؟

يتتبّع "عقدة قابيل" في النصوص الدينية والآداب الغربية والعربية

انطلاقاً من هذه الأرضية، يقترح الباحثُ إعادة النظر في أحد أهمّ المفاهيم التي تأسَّس عليها التحليل النفسي، وهو عُقدة الأبوّة أو "عُقدة أوديب"، التي يرى فرويد أنّها العُقدة الأصلية الموجِّهة للنشاط النفسي الإنساني والمتحكّمة في لاوعيه، والتي استلهم المُعلّم الأوّل للتحليل النفسي معالمها من خلال تحليل مُتون متنوّعة من التراجيديات اليونانية والمسرح الشكسبيري والرواية العالمية.

يحاوِر المودن، بدوره، هذه الأطروحة الفرويدية بالاستناد إلى مدوّنة متنوّعة من النصوص يسعى من خلال استنطاقها، منهجياً ومفهومياً، إلى تقديم أطروحة بديلة ترى أنّ الصراع الأصلي عند الإنسان هو الصراع مع الأخ، وأنّ الجريمة الأُولى، كما يوثّقها النصّ الديني وتتسرّب إلى النصّ الأسطوري والأدبي، هي جريمة قتل الأخ، مع ما يترتّب على ذلك من تبعات رمزية وثقافية وقانونية... 

يستعمل المؤلِّف اسم "عُقدة قابيل" لوصف هذا المركَّب العقدي الذي تتتبّع فصولُ الكتاب الثلاثة تمظهراته ومضمَراته، حيث يتناول الفصل الأوّل تجلّياته في المحكيّ الديني، وتحديداً في قصّة النبي يوسف (صراع الإخوة على محبّة الأب)، وقصّة قابيل وهابيل (جريمة قتل الأخ في العائلة الأُولى)، والميراث الإبراهيمي (علاقة النبيّ إبراهيم بابنَيه إسماعيل وإسحاق).

الإخوة الأعداء - القسم الثقافي

أمّا الفصل الثاني، فيُخصّصه لعُقدة قابيل في الآداب الغربية، حيث يُعالج فيه كتاب الناقد الفرنسي رولان بارت، "عن راسين" (حول جان راسين)، وملامح عُقدة الأخوّة لدى كلّ من الناقدِ والمسرحيِّ الفرنسيَّيْن، كما يعيد استنطاق إحدى روائع المسرح الشكسبيري؛ "هاملت"، ليُحِلَّ فيها القراءة القابيلية محلّ القراءة الأوديبية، وهو ما يستثمره، أيضاً، في قراءة متون روائية غربية لروائيّين بارزين (دوستويفسكي، وساراماغو، وكازانتزاكي)، قبل أن يختم الفصل بتسليط الضوء على موضوع الشرّ العائلي الذي برعت الروائية البريطانية أغاثا كريستي في نسج أحابيل رواياتها البوليسية حوله.

يتساءل عن دوافع فرويد إلى تجاهُل عقدة الأخوّة لصالح عُقدة الأبوّة

ويُغطّي الفصل الثالث المجال السردي العربي، مُحاولاً تقديم نصوص روائية عربية تتجلّى فيها عُقدة قابيل بوضوح، وهو ما يجده المودن في رواية "أولاد حارتنا" (1959) لنجيب محفوظ، والتي مثّلت نقطة تحوُّل عند الكاتب المصري من مركزية سؤال الأب كما رسمته الثلاثية بامتياز ("بين القصرين"، 1956، و"قصر الشوق"، 1957، و"السكرية" 1957)، إلى أهمّية سؤال الأخ، وفي روايتَيْ "خريف العصافير" و"المنبوذ"، على التوالي، لكلّ من الروائيَّين المغربي خالد أقلعي والسعودي عبد الله زايد، حيث تتشكّل ملامحُ شخصيات مميَّزة بدأت تُؤثّث الأعمال الروائية العربية؛ مثل شخصية الإرهابي وشخصية الأخ المنبوذ، ليختتم المودن هذا الفصل بالتساؤل حول ما يمكن أن يُميِّز، في الكتابة وفي التخييل، التناوُل النسائي لعقدة الأخوّة، من خلال رواية "غرف متهاوية" للكاتبة الكويتية فاطمة يوسف العلي. 

وفي خاتمة هذا العمل، يثير المودن تساؤلات حول دوافع فرويد إلى تجاهُل عقدة الأخوّة لصالح عُقدة الأبوّة، مُحاولاً ربط ذلك بوسطه العائلي وعلاقته بأبيه وإخوته، وبمحيطه الثقافي والمهني في مجتمع التحليل النفسي، وعلاقته بالأطبّاء والمحلّلين النفسيّين.

كتاب "الإخوة الأعداء في السرد العربي والغربي"، إذن، محاولةٌ في إعادة قراءة المفاهيم النفسية الفرويدية واستيعاب حدودها التفسيرية واستنبات بدائل لها أكثر مرونة وملاءمة، كما يطرح نموذجاً منهجياً دينامياً يقترح الانطلاق من النصّ إلى المفهوم لتجاوز الجمود النظري الذي كرّسه التحليل النفسي الإسقاطي القائم على إخضاع النصّ للمفهوم وتطويعه.

ويمكن للقارئ أن يلمس في الكتاب طموحَ مؤلَّفه إلى فهم متعدّد الأبعاد: فهمُ العُدّة النظرية للمناهج وكفاءتها وحدودها، وفهمُ الواقع الإنساني في تعدُّده وتعقيده، وفهمُ النصّ الأدبي في خصوبته وثرائه.

وفي هذا الإطار يتساءل الباحث: "ألم يحِن الوقتُ بعدُ لكي يَمنح التحليلُ النفسي انتباهَـه إلى 'عقدة قابيل' التي يُفترض أنّها القادرة على تفسير ظواهر العنف والقتل والإرهاب والإجرام في المجتمع الإنساني المعاصر، خاصّة وأننا في مسألة 'الأخوّة' أمام عُقدة أخطر وأهمّ في تكوين الذات الإنسانية وبنائها النفسي والاجتماعي، ذلك لأنّ عُقدة قابيل تسمح لنا بأن نتجاوز التصوُّرَ الفرويدي، الذي يركّز على النمو النفسي - الجنسي القائم على دينامية نفسية داخلية وفردية، إلى تصوّرٍ نفسيٍّ يحاول أن يؤسِّس تحليلاً نفسيّاً قادراً على وصف هذا الفضاء العِلاقِيِّ التفاعليِّ بين الذوات الإنسانية في فضائها العائلي الاجتماعي المشترك؟".



بطاقة

حسن المودن؛ أكاديميٌّ وناقد ومترجم مغربي، من مواليد مدينة الصويرة عام 1963، تُركّز أعمالُه على التحليل النفسي للأدب؛ ومن إصداراته في هذا السياق: "لاوعي النصّ في رواية الطيّب صالح" (2002)، و"الرواية العربية: قراءات من منظور التحليل النفسي" (2008)، و"القصّة القصيرة والتحليل النفسي" (2018)، و"الأدب والتحليل النفسي" (2019). ومن ترجماته: "التحليل النفسي والأدب" (1997) لـ جان بيلمان نويل، و"من قتل روجير أكرويد؟ الرواية البوليسية والتحليل النفسي" (2015) لـ بيير بيارد.


* كاتب من المغرب

المساهمون