مع الحرب الروسية على أوكرانيا، المستعِر أوارُها منذ أكثر من شهر، شدّت انتباهي زاوية بعنوان "مفاهيم" تقدّمها صحيفة "لوموند" الفرنسية، تقترح فيها مقالات حول مصطلحاتٍ ترفعها الأحداث من الخطاب المتخصّص، لعلوم السياسة مثلاً أو من المعجم العكسري، إلى متداول أحاديث الفضاء العام.
لعلّ مقالات الزاوية مرّت من أمامي مرّات عدّة دون أن تثير اكتراثاً كالذي تُحدثه اليوم مع حدث صاخب كالحرب. ففي الأيام العادية، تبدو فكرة زاوية "مفاهيم" مُغرقة في النخبوية، ضرباً من الترف الفكري الذي يمكن التخلّي عنه، لكنّ الأمر يختلف حين نعبر منعطفات بعينها، أي وقت أن نشعر بتسارع أحداث العالم من حولنا. عندها، يُصبح امتلاك بعض المفاهيم ضرورة قصوى للإمساك بما يحدث في العالم.
هكذا قدّمت الجريدة الفرنسية مؤخراً إضاءات واسعة حول مفاهيم مثل الحصار، ومبدأ الحيادية، وحق اللجوء، كما نجد أحياناً مواد طريفة كاستعراض تاريخ مفهوم نهاية العالم مع صعود خطر الحرب النووية.
وفي الوقت الذي تمنحني فيه هذه المقالات بعض مفاتيح فهم ما يحدث، تفتح أمامي أفق تأمّل في واقع علاقتنا - داخل الثقافة العربية - بالمفاهيم. للأسف، قليلة هي جهودُ تأصيل المفاهيم في العقول ورسم تحوّلاتها، لكن الأدهى أن الجهود المبذولة لا تبلغ فوائدُها شرائح واسعة؛ أبرزها مساهماتٌ لعبد الله العروي (مفاهيم: الأيديولوجيا، التاريخ، الدولة...) وعزمي بشارة (المجتمع المدني، العلمانية، الطائفية، الانتقال الديمقراطي...). هل لنا أن نفهم شيئاً مما يحدث في منطقتنا دون امتلاك هذه الترسانة من المفاهيم؟ قس على ذلك فهمنا للعالم.
أن نفهم العالم هو، في أحد وجوهه، أن نمسك بمجموعة مفاهيمٍ تتحرّك ضمنه وتُنتجه، وإلا فمحكومٌ علينا أن نلاحقه دون أن نقبض على شيء منه.