بالكلمات وبِما تُفجِّره من خيال متدفِّق تُشيّدُ الكتابةُ الأدبية لقارئها عوالِمَ تخييلية متنوّعة وغير واقعية، ولو ادَّعى مؤلِّفُها أو ناقدها عكس ذلك، لأنها تنجحُ في الانتقالِ به إلى أحداث الماضي تارةً، وتُوقِفُه عند وقائع معاصرة تارةً ثانية، مثلما ترْحل به إلى المستقبل مستشرِفةً الآتي بالاعتماد على المُستقْبَليّات أو الخيال وحدَه تارةً ثالثة. وبالكلمات نفسِها تُكتَب الأبحاث الفكرية والفنّية والنقدية التي تروم إقناعَ قارئها بتصوُّراتها وأطروحاتها بغاية إذاعتها في وسطها الثقافي والعلمي.
وبالكلمات ذاتِها، لكن في لغةٍ غريبة، تَفِدُ الترجمةُ حاملةً النصوص الموصوفة أعلاه بغاية استنباتها في الثقافة المُضِيفة لكي تحتضنها، ولتُفيدَ منها ضِمن سيرورة التلاقح، التي تَضْمن الانفتاحَ على الآخرين، وفَتْحَ حوار مع إسهامهم الحضاري، وتُمكِّن من استيعاب تجاربهم، وإغناء فكرها وفنونها، ولخلق وعي بالمشاكل التي تتخبَّط فيها الذّاتُ.
وتدفعُنا قراءةُ بعض الأعمال الأدبية، التي أُنْجِزت لها ترجماتٌ عديدةٌ في لغة بعينها، إلى الانتباه إلى أنَّ أصلَها يَغدو نماذج متنوّعة ومختلفة، ممّا يحدونا إلى الإقرار بأنّ كلَّ ترجمة هي تحقُّقٌ لعالَم ممكن من بين عوالم ممكنة، وهي الفكرة التي طوَّرَها لُوبُومِير دُولِزِل وأمبرتو إِيكُو وآخرون (انظر "العربي الجديد": الترجمة أثَراً مفتوحاً).
كلُّ ترجمة هي تحقُّقٌ لعالَم ممكن من بين عوالم ممكنة
لكنّ سؤاليْن يُثاران أثناء انتقال هذه النصوص من ثقافة إلى أُخرى: الأوَّل هو مَدى نجاح الترجمة في أن تنقل ذلك العالَم الفني وفي أن تُحيلَ إليه، وقدْ بُنِيَ نصّاً أدبياً تخيِيليّاً في كلّيته، يُنعتُ بصفته أصْلاً بعد توطينه في غير ثقافته؛ والثاني مدى تمكُّن العلاماتِ التي يُبنى بها النصُّ الأصلُ ويُعاد إنتاجُها في اللغة المُضيفة مِن أن تُحدِث الوَقْع نفسَه الذي يُفتَرَض أن يكون قد أحْدَثه الأصل في قارئه في لغته الأصلية.
الأكيد أنّ النص الأصل عالَمٌ مستقل بذاته مُعجَماً وتراكيبَ وبلاغةً وأمثالاً ورؤية ثقافية ووجودية، لذلك نبَّه جورج سْتاينر في كتابه "بعد بابل" قارئَ الترجمة إلى "أنَّ إنتاج نص مطابق لفظياً للنص الأصلي (تحويل الترجمة إلى نسخة كاملة) هو أمر يتجاوز حدود الخيال"، وهو انتقاد ضِمنِيّ لنموذج القدّيس جيروم المؤمن بترجمة أمينة، وبإمكان تحقُّقها عبر اعتماد المُعجَم بالأساس، خصوصاً عند تعلُّق الأمر بترجمة النصوص المُقدَّسة التي تقتضي الصرامة في أقصى صُوَرها، وللذين قد تُراودُهم فكرةُ تَبنِّيها.
وما يُمكن فهمُه من كلام سْتاينر، أيضاً، هو أنَّ أيَّ تغيير يلحق النصَّ الأصل أثناءَ تخلُّقه في غير لغته، مع ما يقتضي ذلك المخاض من تحوُّل في البناء، أو التركيب، أو النبرة، أو الإيقاع، أو القِيم، يخلقُ منه عالَماً آخر مختلفاً عن عالَمه الأصلي، بل إنه يستدعي بالضرورة الإقرارَ بأنَّ الترجمة هي عالَم مستقلّ في حدِّ ذاته، وأنها تحافظ على صلتها بأصلها، وفي الوقت ذاته تتمسَّك باستقلالها عنه، لأنها تجترح صوتَها الخاص.
كذلك، لا يخفى أنَّ لكلِّ مترجِم حساسيةً وذوقاً يُميِّزانه عن سواه، بالإضافة إلى تكوينه العلمي والفنّي، ناهيك عن ظروفه الخاصة التي نشأ فيها أو التي حرَّرَ فيها ترجمتَه، والتي تكون حاسمة في إعادة كتابته أو ترجمته لنصِّ غيره، ولعلّ ذلك ما أكَّد عليه الفيلسوف الإسباني أُرْتِيغا إي غاسيتْ بمقولته الشهيرة والدّالة جدّاً في هذا السياق، وإنْ كانت قد قيلت في سياق آخر، لمّا عرَّف ذاتَه: "أنا هو أنا وظروفي، التي إنْ لم أُنقِذْها أَفْقِدْ نفسي".
وتَفِي العبارة نتوخّى لفتَ الانتباه إليه، ذلك أنّ النص الذي قد يُعرَض على جماعة من المترجِمين نقلُه إلى لغةٍ بعينها كالإنكليزية مثلاً، سيُوقِفُنا بالتأكيد على نصوص متنوّعة هي في الواقع تحقُّق لعوالم ممكنة لعالَم أوَّل هو الكون الروائي أو الشعري أو غيره الذي يُعْرف بالأصل.
تتوسّل الترجمة بالتأويل لإفهامِ فَهمِها لقارئها، فَتُكَوثِر النصّ المنقولَ داخل الثقافة المستقبِلة إذا تُرجِم من قِبل أكثر من مترجِم، ليغدو الأصلُ - الذي هو عالَمٌ في ذاته، بقِيَمه وتراكيبه وبنائه ومعجمه وأفكاره وصُوَره - نصوصاً مختلفة بحسب عدد ترجماته، أي أنَّ الواحد يتعدَّد، فتصير كل ترجمة عالَماً مُمكِناً من بين عوالِم كثيرة.
* أكاديمي ومترجم من المغرب