التغطية مستمرة

22 يوليو 2024
مقطع من لوحة للفنان الفلسطيني شريف سرحان
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تحديات التغطية الإعلامية في غزة**: يواجه الصحافيون في غزة ظروفًا قاسية خلال الحرب الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر 2023، مما اضطرهم لمغادرة مكاتبهم بسبب تهديدات أمنية.

- **الصعوبات اليومية في العمل والحياة**: يعاني الصحافيون من انقطاع الكهرباء والإنترنت، مما يضطرهم للبحث عن مصادر بديلة للطاقة والاتصالات، وتوقف التغطية الإعلامية في 16 نوفمبر بسبب انقطاع الإنترنت.

- **الإصرار على مواصلة التغطية**: رغم التحديات، يستمر الصحافيون في تغطية الأحداث باستخدام تقنيات بديلة وتعاون مع زملائهم في الخارج، مما يعكس قوة الإرادة والتفاني في نقل الحقيقة.

لا تخفى على أحد الظروف القاهرة التي يمر بها الصحافيون في قطاع غزّة، خلال تغطيتهم الحرب الإسرائيلية التي اندلعت شرارتها في السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ، خاصة أنّ الصحافة عموماً أجمعت على أنها حرب إبادة تستهدف الأخضر واليابس في القطاع المحاصر الذي تبلغ مساحته 365 كيلومتراً مربعاً. ويمكن لي أن أفكر في كلّ تلك الأزمات التي واجهتها خلال عملي، في تحرير موقع "سوا" بعد اندلاع الحرب، وإصرارنا على الحفاظ على التغطية حتى تظلّ مستمرة، وتعرضنا خلالها لظروف غاية في التعقيد نتيجة تطوّر وارتفاع إيقاع هذه الحرب التي ما زالت مستمرة، وتجاوزت الـ226 يوماً على التوالي.

بدأت رحلة الكفاح الإعلامي والتغطية اليومية في يوم الثالث عشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر للعام 2023، وهو التاريخ الذي أجبرنا فيه قسراً وتحت التهديد على مغادرة مكاتبنا في بيت الصحافة بحيّ الرمال، في مدينة غزة، والتوجّه نحو جنوب وادي غزة. فمع إشراقة شمس هذا الصباح، أخبرني الزملاء أن هناك حركة غريبة لموظفي "منظمة الصليب الأحمر الدولي"، إذ إن جميعهم بدأ بجمع عائلاتهم والتوجّه نحو مقر المنظمة القريب من، مقرّ مؤسسة بيت الصحافة في شارع الشهداء غرب مدينة غزّة، حيث يتوجهون على الفور إلى مقرّات خصصت لهم في جنوب قطاع غزة، وفق ما علمنا لاحقاً.

كان المشهد في هذا اليوم صعبا للغاية، فالقصف الإسرائيلي لم يتوقف ولو لحظة واحدة سواء كان جواً أم براً أم بحراً، وسط حالة من التيه لدى المواطنين والزملاء الصحافيين، فالجميع يسأل (أين نذهب؟) ونحن نقف أمام مقرّ المؤسسة، نحاول تقصي الأخبار، وإجراء الاتصالات للتأكد من خبر الإخلاء الوارد من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لجميع الموظفين الدوليين في غزّة.

أتوجه إلى السوق بشكل شبه يومي لجلب ما يتوفر من خضراوات -إن وجدت- في بداية هذه الحرب الشرسة

في تمام الساعة التاسعة والنصف صباحاً، تأكدنا من خبر الإخلاء وضرورة المغادرة إلى جنوب وادي غزّة، بناء على تعليمات جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث حملت أغراضي ومعداتي الصحافية وركبت السيارة وتوجهت إلى منزلي في غرب مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، وأخبرت الزملاء بضرورة مواصلة التغطية الصحافية حتى صدور تعليمات جديدة.

تدبر بعض زملائي في هذا اليوم، أمورهم واستطعنا مواصلة التغطية من بعض المناطق القريبة من مقر مؤسسة بيت الصحافة، إلى حين ترتيب أموري في المنزل، حيث يلزمني توفير مصدر للكهرباء وكذلك الإنترنت، حتى نقوم بالمناوبة في التغطية الإعلامية والتي ستكون على مدار الساعة من دون انقطاع.

في اليوم الخامس عشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بدأت رحلة العذاب والمشقّة اليومية في سبيل مواصلة التغطية الإعلامية ونقل الأخبار والصور والفيديوهات لمصلحة وكالة سوا الإخبارية، حيث تم تقسيم عمل الوكالة على ثلاثة محررين وهم المتوفرون في ذلك الوقت نظراً إلى وجود تيار كهربائي وإنترنت لديهم.

يبدأ نهاري منذ ساعات الصباح الباكر، بحمل البطارية وهي من فئة (100 أمبير)، والبحث عن مكان لكي أتمكن من شحنها بالتيار الكهربائي من أجل استعمالها من ساعات المغرب وإلى ساعات الفجر الأولى، وهي المدّة التي أشرف على التغطية الإعلامية بنفسي لمصلحة وكالة سوا الإخبارية.

توقفت التغطية الإعلامية قسراً، في 16 تشرين الثاني، بسبب انقطاع خدمة الإنترنت

رحلة البحث عن مكان يوجد فيه تيار كهربائي لشحن بطارية العمل، هي مهمة ليست بالسهلة بتاتاً، في ظلّ انقطاع كامل للتيار الكهربائي، فالأمر في حاجة إلى أن يكون لديك معارف وأصدقاء وجيران لديهم -على سبيل المثال- نظام طاقة شمسية أو مولد كهرباء كبير الحجم، إذ كنت أتناوب على شحنها عند أحد الجيران -تارة وتارة أخرى عند قريب لوالدتي لديه مولد كهربائي كبير.

ما إن أضع بطارية العمل على الشاحن وأطمئن أنها بخير حتى أغادر عائداً إلى البيت، حيث يبدأ غمار البحث عن توفير المأكل والمشرب لعائلتي الصغيرة التي تتكون من زوجتي وأطفالي الثلاثة وهم: يوسف (10 سنوات) وإيلا (8 سنوات) ومحمد (عامان ونصف العام)، والذين جميعهم ولدوا في سنوات الحروب والتصعيدات التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة بين الفينة والأخرى.

أتوجه إلى السوق بشكل شبه يومي لجلب ما يتوفر من خضراوات -إن وجدت- في بداية هذه الحرب الشرسة، لطهوها للعائلة على موقد النار والذي هو الآخر في حاجة إلى رحلة بحث أخرى لجمع الحطب في ظل عدم توفر غاز الطهي ومنع إسرائيل إدخاله إلى قطاع غزة المحاصر.

مع ساعات ما بعد الظهر أبدأ أنا وزوجتي بطهي الطعام المتوفر لنا ولأطفالنا على موقد النار فوق سطح منزل العائلة، إذ إن هذه المغامرة أشبه بحالة انتحار في ظلّ تحليق مكثف لكلّ أنواع الطائرات الإسرائيلية في السماء، لكنها لقمة الدم التي تحاول توفيرها لأولادك في حرب إبادة راح ويروح ضحيتها آلاف الأطفال والنساء.

وقبل حلول ساعات المساء، أتوجه إلى إحضار بطارية العمل من المكان الذي وضعتها فيه لشحنها بالتيار الكهربائي، وذلك للبدء بالتغطية الإعلامية من ساعات المساء وإلى ساعة الفجر الأولى، وكلّ ذلك يعتمد على وتيرة الأحداث والتي تتحكم في ساعات نومي، حيث إنني لا أكاد أنام ما بين ثلاث وأربع ساعات على مدار الـ24 ساعة.

قبل منتصف شهر تشرين الثاني/ نوفمبر للعام 2023، أبلغني أحد الزملاء المحررين الذين يعملون معي، أن شبكة الإنترنت انقطعت بالكامل في المنطقة التي نزح إليها في مخيم البريج وسط قطاع غزة، بعد غارة جوية إسرائيلية استهدفت أرضاً زراعية قريبة منه، ما زاد الحمل ثقلاً عليّ وعلى زميلي الذي كان لزاماً عليه أن يساعدني على المضي قدماً في مواصلة التغطية الإعلامية.

في السادس عشر من شهر تشرين الثاني، حلّت الكارثة التي كنا نتوقع حصولها في أي لحظة خاصة مع استمرار الحرب الإسرائيلية وإغلاق المعابر الحدودية بالكامل من طرف الاحتلال الإسرائيلي، وأعلنت شركة الاتصالات الفلسطينية عن انقطاع خدمات الاتصالات والإنترنت عن جميع محافظات قطاع غزة، وهو ما أدخل القطاع الإعلامي في حالة من الارتباك الشديد، خاصة أن كلّ صحافي يعتمد في تغطية الإعلامية على الاتصالات والإنترنت اعتماداً رئيسياً وأساسياً.

توقفت التغطية الإعلامية قسراً بسبب الظروف التي ذكرتها آنفاً من انقطاع خدمة الإنترنت، ولكن إرادة الشعب الفلسطيني لا تلين، وتقوم بتطويع كل التحديات لصالحها مهما بلغ الثمن، إذ زارني أحد الأصدقاء ودعاني للذهاب إلى شاطئ البحر الذي يعج بالزوارق الحربية والتي تستهدف كل من يقترب من الشاطئ ، فقلت له: "يا رجل أتريد أن تقتلني؟" ضحك قليلاً، وقال لي، تعال لنعرف أخبار العالم ، فلدي شريحة إلكترونية، يمكن من خلالها الاتصال بشبكة الإنترنت بتقنية الجيل الخامس.

ذهبت أنا وصديقي في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر إلى مكان قريب من شاطئ البحر، إذ اتصل بالإنترنت عن طريق الشريحة الإلكترونية، وبدأنا نعرف الأخبار ونقوم بتحديث المعلومات بعد أكثر من 24 ساعة بتنا فيها مقطوعين عن العالم الخارجي، إذ قام بعدها بتركيب هذه الشريحة على هاتفي وأخبرني بكيفية استخدامها لمواصلة التغطية الإعلامية.

لحسن حظي كانت الشريحة الإلكترونية تعمل في ساعات الليل الأولى وتلتقط إشارة التغطية من محيط منزلي الكائن قرب مخيم النصيرات وسط قطاع غزة والقريب كذلك من منطقة البحر، وهو ما مكنني من مواصلة التغطية الإعلامية من خلالها. خلال كل ذلك كنت أستعين بالزميلة فداء التي تقيم منذ سنوات في تركيا مع عائلتها، إذ تقوم هي بالنشر على منصات مواقع التواصل الاجتماعي التابعة لوكالة سوا الإخبارية، في حين أتولى أنا تحديث الموقع الإلكتروني دفعة واحدة في ساعات الليل، وفق ظروف توفر الإنترنت من خلال الشريحة الإلكترونية.

استمر هذا الحال حتى عادت الاتصالات والإنترنت مرة أخرى بعد انقطاع دام عدة أيام متتالية، ولكن لسوء الحظ أخبرني آخر زميل محرر معي أنه اضطر إلى النزوح من المكان الذي يوجد فيه بمدينة رفح إلى مكان آخر، مكان ليس فيه تيار كهربائي دائم أو إنترنت يمكن من خلالها المساعدة في مواصلة التغطية الإعلامية.

مع مرور أيام الحرب ازدادت الأوضاع تعقيداً، فبتّ أنا الوحيد رفقة الصديقة فداء، نواكب التغطية الإعلامية لوكالة سوا الإخبارية، إذ تتولّى هي التغطية عبر منصّات التواصل الاجتماعي، فيما أنتظر شحن البطارية بالكامل، لكي أحدّث الموقع الإلكتروني في ساعات المساء حتى الفجر، وهذه العملية استمرت حتى منتصف شهر مارس/آذار تقريباً، إذ ساعدت أحد الأقرباء على شراء لوحة طاقة شمسية وتوصيلها بشكل مباشر على البطارية، ومن خلال جهاز كهربائي، يجري تحويل الكهرباء إلى المنزل، إذ إنّ هذه العملية ساعدتني كثيراً في مواصلة التغطية اليومية على مدار الساعة، إلا في حالة انقطاع الإنترنت، حين نستخدم الشرائح الإلكترونية لمواصلة تغطية الحرب ومتابعة عملنا حتى لا ننقطع عن التغطية.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون