رغم أن المغرب لم يكن تحت السلطة العثمانية، بشكل مباشر، إلا أن علاقاته السياسية والدينية لم تنقطع مع بلاط السلطة العثمانية، وقد كانت الرسائل والزيارات متبادلة بين الطرفين، حيث يبعث السلاطين المغاربة الهدايا والأعطيات والرسائل، في الأعياد والمناسبات السياسية، ويتلقون في الوقت نفسه هدايا من الجانب العثماني تفيد الرضا والقناعة بمستوى العلاقات، التي لم تتطور إلى حضور مباشر للإدارة العثمانية في الشأن السياسي والإداري المغربي، وبقيت تلك العلاقات على ذلك النسق كافية للحوار البناء والمحترم بين سلطان مراكش وفاس وبين ساكن قصر القسطنطينية.
لقد كانت الخلافة العثمانية في تلك الفترة في أوج قوتها، حيث بسطت هيمنها على شبه الجزيرة العربية ومصر والمغرب العربي والعراق وبلاد فارس والمماليك الإسلامية في آسيا، وكانت الملاحة في البحر الأبيض المتوسط تحت هيمنتها، إضافة إلى سيطرتها على عدد من الممرات المائية الأخرى، وطرق التجارة البرية في تلك الفترة. وكانت السفن الأجنبية تحتاج إلى إذن خاص من الباب العالي حتى تبحر في أمان، وتدفع عن ذلك المرورالضرائب للدولة العثمانية.
هذا هو الجو العام الذي يحكم خلفية الرحلة التي سيقوم بها المغربي الفقيه علي التمكروتي، في كتابه "النفحة المسكية في السفارة التركية" عام 1589، وهو جو القوة والعافية السياسية والاقتصادية والهيمنة الكلية للإمبراطورية العثمانية وموظفيها على العالم العربي والإسلامي. في الجهة الأخرى، كانت الدولة المغربية في أقوى فتراتها السياسية في عهد السلطان السعدي، أحمد المنصور الذهبي، الذي تمكن هو الآخر من إقامة دولة مغربية كبيرة، تمتد من المغرب إلى موريتانيا والسنغال، حتى السودان. وكانت العملة الرائجة في تلك الفترة هي تجارة الملح، والتي جعلت القوافل التجارية المغربية تغزو تلك الأصقاع البعيدة من القارة الأفريقية وتصل حتى مالي وتمبوكتو.
لم يتحدث في رحلته التي دونها بعد عودته من مهمته التي أوكله بها السلطان الذهبي، عن ما وراء هذه الرحلة ولا خلفياتها السياسية
ولا تزال شواهد العمران السعدي قائمة إلى الآن في عدد من المناطق التي وصلها هذا الحكم. لقد كان من الطبيعي جدا أن تتقصى الإمبراطورية العثمانية في شأن هذا الجار البعيد (المغرب)، الذي يبني إمارة شاسعة باستقلال تام عنها، في حين أن الجزائر المحاذية كانت تحت الحكم العثماني. لكن الدهاء السياسي الذي كان يتحلى به الحكام السعديون ومن جاء بعدهم، جعلهم يتفادون كل احتكاك عسكري، بل وقدموا شكلا من أشكال الولاء للخلافة العثمانية، أساسه التقدير وعدم الخروج عن "الإجماع" بالمفهوم الفقهي. ولذلك كانت تلك الزيارات، أو السفارات، هي الإطار الملائم والمقنع للجميع، الذي تتلاقى فيه إرادة السلطان المغربي مع إرادة السلطان العثماني، يومها لم تكن الحدود جغرافية، أو أشبارا من التراب، ولكن قناعات روحية واعتقادا راسخا في ملة الإسلام الواحدة.
الهدف من الرحلة
لم يتحدث علي التمكروتي في رحلته التي دونها بعد عودته من مهمته التي أوكله بها السلطان أحمد المنصور الذهبي، عن ما وراء هذه الرحلة ولا خلفياتها السياسية، ولكنه أوضح باقتضاب أن الهدف كان هو حمل رسائل وهدايا إلى الخليفة العثماني مراد الثالث في القسطنطينية. والرحلة حققت مرتين من طرف باحثين مغربيين، الأول هو عبد اللطيف الشادلي وصدر تحقيقه عام 2002 عن المطبعة الملكية بالرابط،، والثاني هو محمد الصالحي، وصدر تحقيقه عام 2005 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
يشير عبد الطيف الشادلي إلى أن التمكروتي كان متكتما جدا حول فحوى الرحلة، ولم يقل لنا ما جرى عند استقباله من طرف الخليفة العثماني. يكتب الشادلي "يرى دو كاستر (هنري دو كاستر، مستشرق فرنسي متخصص في تاريخ المغرب)، أن التمكروتي حرر رحلته بعد عودته من مهمته في مراكش، وأنه فعل ذلك، في ما يغلب على ظنه، بطلب من السلطان أحمد المنصور الذهبي، كتقرير عن المهمة التي كلفه بها". ويضيف الشادلي، محقق الرحلة، في معرض حديثه عن القيمة المعرفية والأدبية لهذا النص الرحلي، أنه يتسم بالعموميات، ولا نجد فيه الوصف الحي الذي تتسم به عادة مثل هذه الرحلات، وكأن سمة المحافظة التي تطغى على التكوين العلمي والثقافي للتمكروتي انعكست سلبا على هذا النص، في حين نجد أن رحلات من سبقوه كانت على قدر من الجرأة الأدبية والفنية والمعرفية.
يقول الشادلي "ونحن نرى أن السمة المميزة لـ(الإدارة) المغربية في العصر الذي نتحدث عنه هي جنوحها إلى الشفوي وتجافي المكتوب، خصوصا في مجال التعامل مع الإمبراطورية العثمانية. ومما نلاحظ من خلال قراءة (النفحة) أن التمكروتي اختصر حديثه عن مهمته لدى السلطان العثماني في بضعة أسطر، حينما كتب عن مقابلة السلطان (ثم في اليوم الثالث من إقامتنا في المنزل الذي أعد لنا، أُذن لنا في الدخول على السلطان، فدخلنا عليه في إيوانه)، أو حينما كتب عن توديعه له (فلما حان وقت السفر، أُذن لنا في الدخول على السلطان للوداع.
فدخلنا في القبة التي سلمنا عليه يوم ورودنا على العادة، فسلمنا عليه وخرجنا، وناولنا أجوبة كتب الخليفة السلطان مولانا أحمد الشريف الحسني، وهدية عظيمة مكافأة، وبعثوا معنا رسولين منهم)". ويخلص محقق الرحلة إلى أن الرحلة ليست مجرد تقرير من التمكروتي إلى السلطان، بل هي عمل مستقل عن ذلك، يكتب "وعليه، فإن النفحة أبعد ما تكون عن تقرير عن مهمة رسمية، بل هي عمل مستقل عن المهمة، استلهم فيه التمكروتي نموذج الرحالة الذين تأثر بهم، وخصوصا خالد البلوي، وكان تحريره لها بعد عودته من مهمته، اعتمادا على تقاييد ضبط فيها توالي المحطات وتواريخها، معتمدا خلال التحرير، على خمسة مصادر، هي رحلة البلوي، والعقد الفريد لابن عبد ربه، ورحلة ابن بطوطة، وكتاب البكري، ومدارك القاضي عياض". وقد يطول عرض مناقص رحلة التمكروتي، وأخذها عن كتب ورحلات الآخرين، لكنها بالنظر إلى الزمن الذي تمت فيه، فإنها تعتبر وثيقة مغربية مهمة، لأنها تلقي الضوء على جانب من العلاقات الدولية للمغرب في تلك الفترة، ومدى ارتباطه بالخلافة العثمانية، والأجواء العامة، الاجتماعية والسياسية، التي كانت سائدة، علاوة على مشقة التنقل والسفر، الذي كان بحق "قطعة من الجحيم"، فقد كانت الأسفار تستغرق عدة أشهر، سواء إلى الحج أو إلى بيت المقدس أو إلى حيث آلت الخلافة الإسلامية في إسطنبول.
رؤية أخرى
على مستوى آخر، نجد المحقق المغربي محمد الصالحي، في تحقيقه لـ"النفحة المسكية في الرحلة التركية"، يشير إلى مضمرات كثيرة في نص التمكروتي. وفي مقدمة تحقيقه للكتاب، الحائز على جائزة الرحلة في 2005، يعرض لعدد كبير من الملاحظات، تضع القارئ في مستوى آخر من تلقي هذا النص. يكتب الصالحي "أي إحساس سَينتابُ فقيهاً ورعاً بدوياً من بادية درعَة في أقصى السّوس الأقصى على مَرمَى حجَر من فيافي الصحراء الكبرى، وهو يتلقى أمر السلطان السَّعدي أحمد المنصور الذهبي بالورُود عليه وهو في فاس من حيث سينطلق رأساً إلى إسطنبول مُحمَّلاً بهدية ورسالة إلى السلطان العثماني مُراد الثالث؟
أية رهبة ممزوجة بالفخار سَتعبُر مَسام علي بن محمد التمكَروتي وهو يتأهبُ للأمر العظيم وهو الذي لم يُغادر البتَّة مسقط رأسه ومَرعَى طفولته بلدة تمكَروت النائية النائمة في وهَادِ دَرعَة؟ أية أفكارٍ ستعبُر ذهنه البدوي وهو مقبل على ركوب البحر وأهواله لشهورٍ وشهورٍ، وهو الذي لم تقع عيناه يوماً على مَدٍّ أو جَزرٍ، ولا لمسَتْ يداه مياه البحر المالحة؟ أي شعور سَيُزَوبعُ مُخيلة الفقيه المأخوذ بسحر البلاغة المسكوكَة والقوالب اللغوية الجاهزة المأخوذة من ذاكرة حافظة؟".
أسئلة مقلقة
يمضي محمد الصالحي قدما في طرح أسئلة التلقي المقلقة، والخاصة بهذا النص، لاعتبارات ثقافية يوضحها كالتالي "لسنا في حاجة إلى القول إن الأسرة السعدية الحاكمة يومئذٍ قدمَت من نفس بلاد التمكَروتي، أعني درعَة الكبرى. ولسنا في حاجة إلى القول إن علي بن محمد التمكَروتي سليل أسرة لها الباع الطّويل في الفقه والتدريس في المنطقة، فيكفي أن نشير إلى والده الشيخ محمد البكري، وإلى أخيه محمد بن محمد، الذي أُرسل بدوره، في وقتٍ سابق، مبعوثاً إلى القسطنطينية كما يذكرُ نَصّ الرحلة نفسُه.
كان تحريره لها بعد عودته من مهمته، اعتمادا على تقاييد ضبط فيها توالي المحطات وتواريخها
كلّ ذلك مجرّد تحصيلِ حاصلٍ. فميثاق القراءة يقتضي، إن نحن توخينا مُلامسَة "النفحة المسكيّة"، أن نتجرد ما أمكنَ من معلومات قبلية قد تُوجه قراءتَنا وفقَ مشيئتها، وقد تشغل البال بحيثياتٍ قد تجعل العينَ تنام عن مُرادِهَا الذي هو الارتحال مع الرحالة علي بن محمد التمكَروتي بصفتِه تلك، أي رحّالة لا غَيْر.
لنصحَب التمكَروتي، إذن، في رحلته من تمكَروت التي غادرها يوم 18 مارس/ آذار 1589 مارّاً بسجلماسة ففاس فتطوَان حيث سيركب البحر بعد طول انتظار سفينةٍ حَرُونٍ سَتحط الرحال في عددٍ كبير من موانئ ومراسِي الجزائر وتونس وليبيا قبل أن تُعَرِّجَ قاطِعَةً البحر الأبيض المتوسط عرضاً لتصل إلى ميناء القسطنطينية يوم 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1589. ثم نصحبه ثانية من هناك، بعد إقامة طويلة دامت ثمانية أشهر حاطين الرحال في الموانئ والمراسي ذاتها لنصِل إلى تِطْوَان، فمراكش، فتمكَروت".
من طرابلس إلى القسطنطينية
من مقاطع رحلة التمكروتي نعرض للحظة ركوبه البحر ووصوله إلى إسطنبول، يقول: كانت إقامتنا في طرابلس شهرا واثني عشر يوما، وقد ضاق الوقت وحان دخول الشتاء وكبر علينا ركوب البحر في وقت منع الشرع ركوبه، وهو حلول الشمس ببرج العقرب إلى آخر الشتاء. وعظم علينا الخوف لارتجاجه وشدة هوله وموجه، حتى كان يترجح عندي التخلف عن تلك العمارة، والمقام بطرابلس مدة الشتاء حتى ينسلخ، لولا ما كان من ملاطفة صاحبي السيد الكامل الكاتب سيدي محمد بن علي الفشتالي، ورفيقي سيدي محمد بن علي بن أبي القاسم، حفظهما الله وجزاهما عن الصحبة خيرا. فإنهما كانا يهونان علي الأمر ويقولان: التخلف عن هذه العمارة وما فيها من الجند والقوة ليس برأي سديد، لكنها مأمونة من أحد الخوفين وهو الأسر، والغرق نرجو من الله سبحانه السلامة منه أيضا.
وما زالا بي حتى رفضت ذلك الخوف والحذر وعزمت على السفر، وقد كان البحر وموجه تلك المدة التي أقمنا بطرابلس يضطرب اضطرابا شديدا ويهول هولا عظيما حتى ربما يمنعنا النوم في الديار. وتفرقت المراكب في المراسي، وبعُد بعضها من بعض خوفا من أن يضرب الموج بعضها ببعض فيتكسر. ومرسة طرابلس لا يمنع إلا من الريح الغربية، تكسر فيه السفن وتفسد كثيرا، وقد كنا نشرف على البحر في تلك الأيام، فنشاهد فيه من قدرة الله آيات عظيمة باهرة: أمواج كأنها جبال من زمرد سائرة تعطف عطفا، وتنقصف قصفا وتأتي خاضعة إلى البر كأنها تقبل منه كفا وتأتيه أحيانا فتعطف عطفا وتنثني على الإلمام به عطفا، فهي كما قيل: تتكسر الأمواج فيه فتنثني/ بيد الصبا مبيضة أعطافها فكأن شهب الخيل قد غرقت به/ فطفت على أمواجه أعرافها (وبعد رحلة فيها الخوف والرجاء والتعب واليأس، يصل صاحبنا إلى القسطنطينية، فيقول: وهو باب القسطنطينية لا تجوز عليهما سفينة داخلة وخارجة إلا بإذن من أهلها.
وهم أناس أقامهم السلطان هناك لرعاية البحر من العدو، ولا يفترقون ليلا ولا نهارا. وإذا جاءت سفينة عدو أو أكفار يرصدون غفلة خوفوهم بالمدافع وأغرقوهم، وإلا عوقبوا عقوبة شديدة". (ثم بعد استطرادات واستشهادات ثقيلة لا لزوم لها)، يواصل: وهذه المدينة واسعة جدا مسورة، كثيرة الأبواب والعمارة والمساجد والجوامع والأسواق والحمامات والفنادق. وهي قاعدة بلاد الروم وكرسي مملكتهم ومدينة قيصر، وما زال من بها من المسلمين اليوم ينسبون إلى الروم، ويحبون هذه النسبة ويوثرونها، حتى الخط الجيد عندهم يقولون خط رومي.
وعمارتها دائرة بمرساها، ومرساها واسع جدا داخل في البحر كثيرا. وقد أرسى فيه من أنواع السفن والمراكب من الأغربة والغلاين والبطشات والمعونات والبراكش والغلايط والفراقط والزوارق والصنادل في المرسى كالنمل، هي عندهم بمنزلة الحمير يتصرفون عليها في حاجتهم إلى الغلطة وإلى الرياضات، وغيرها في كل شيء، حتى في الحشيش والتبن والحطب. والمدينة العظمى على يمين المرسى يسمونها إسطنبول والأخرى على شمالها يسمونها الغلطة.