إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين معمّدة بدم أبنائها.
المَشاهد المُروّعة التي نراها في غزّة اليوم صارت تُذكّرنا كلَّ آن بسيناريو هولوكوست فلسطيني يُنفَّذ بخطوات تبدو مدروسة ومتتابِعة. لا أظنّ أنّ النزعة "الشعاراتية" العربية أو "الحناجر المبحوحة" ستكون ذات جدوى حقيقية. لا بدّ من مقاربات متمايزة نوعياً عن المقاربات التقليدية التي سادت المشهد العربي في جانبه الثقافي إزاء القضايا المصيرية.
لا بدّ من تحديد تفاصيل خطّ الشروع في المقاربة الثقافية. لعلنا نتّفِق أنّ موازين القوّة الإستراتيجية "الصلبة" تميل لكفّة المحتل. صحيحٌ أنّ إيقاع خسائره، حتى لو كانت محدودةً، ستكون مكلفةً جدّاً لحساباته، بسبب محدودية الوجود البشري الذي يُكوّن العمود الفقري لمجتمعه؛ لكن علينا ألّا نتناسى الكلفة البشرية الهائلة التي ستُلحقها ماكِنته العسكرية بالشعب الفلسطيني، مُستغِلّة الغطاء الإعلامي الأوروبي والأميركي الداعم. وفي النهاية، سندور في الحلقة الاستعادية ذاتها من تبادل أسرى وتحديد مناطق عبور آمن وإعادة ترسيم الخريطة الأمنية... إلخ
تكمن القدرة الفلسطينية الثقافية في جانب القوّة الناعمة (Soft Power). قد يبدو هذا الحديث غير مناسب لواقع الحال المضمَّخ بالدماء والأشلاء والمعاناة البشرية الهائلة وغير المسبوقة في غزّة؛ لكن عاجلاً أو آجلاً لا بدّ من مواجهة الاستحقاقات وعقلنة القدرة الفلسطينية وتفعيل جوانب القوّة فيها. معروفٌ عن الفلسطينيّين أنهم بارعون في القدرات الأكاديمية والمهنية، والنسبة الأكبرُ من شهادات الدكتوراه المرموقة بين العرب إنّما حازها فلسطينيون؛ لذا من المجدي في الإستراتيجية الثقافية العملُ من نقطة الشروع هذه: القدرة الفلسطينية الناعمة.
لو بدأ الفلسطينيون بعملية ارتقاء وتحديث لواقع البنية التحتية الثقافية لديهم، لصارت الثقافةُ قوّةً حقيقية فاعلة في تعديل بعض الاختلال في ميزان القوّة مع المحتل. من المجدي البدءُ بالبنية التحتية للثقافة؛ الرقمية تخصيصاً لأسباب عدّة، منها: أنّها غير باهظة التكلفة؛ إذ إنّ عناصرها الأوّلية لا تعدو شغفاً لا يُبارى بالبرمجيات يُضاف إليه جهاز حاسوب مع وصلة إنترنت. ثمّ إنّ الثقافة الرقمية تفترض العمل الفرداني، وهذه واحدة من أهمّ خواص الفرد الفلسطيني الذي اعتاد الاعتماد على نفسه منذ بواكير حياته. الغاية هي الوصول - في زمن قياسي - إلى نخبة رقمية متميّزة (Digital Meritocracy) شبيهة بقادة الهنود الذين يقودون شركات عالمية كبرى في قطاع التقنية الرقمية.
الفلسطينيون شعبٌ ذكيّ وصبور، ومجالَدة الشدائد ليست غريبةً عن تكوينه النفسي والذهني والجسدي. وعندما تكون الأهداف العليا مُؤشّرة لديه على نحو واضح لا لبس فيه، فأظنُّه سيُحقّق منجزات ستكون أقرب إلى انعطافات كبرى (Breakthroughs) على الصعيد العالمي.
التعليم الراقي هو حجر الزاوية في تدعيم القدرة الفلسطينية. تخيَّلوا معي فلسطينياً تعلّم منذ صغره لغة واحدة أو اثنتين من اللغات الأجنبية (الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية مثلاً) بطريقة ذات كفاءة، ثمّ عزّزها بقدرات رقمية مضافاً إليها تميّز في باب الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة. كيف سيكون مستقبله؟ سيكون مؤهَّلاً لشغل مواقع أكاديمية مرموقة في كبريات الجامعات الغربية، فضلاً عن مواقع تنفيذية مهمّة في أكبر الشركات التقنية الحاضرة والتي ستنشأ في المستقبل. العلم والتقنية بطبيعتهما يتغلغلان بطريقة ناعمة وهادئة في نسيج المجتمعات المحلّية والعالمية، إلى جانب انعدام المخاطرة البشرية التي تترتب عليها تكاليف هائلة.
لو أنّ غزّة والضفّة الغربية حقّقتا نموذجاً تنموياً مشابهاً في بعض جوانبه للنموذج الهندي، فستتحوّل كلتاهما إلى بقعة إشعاع جاذبة للاستثمارات، وسيُحقّق هذا النموذج ناتجاً قومياً سنوياً يساهم في الارتقاء بحياة أبنائه ولا يجعلهم نهباً للفقر والانصياع لرغبات وشروط الجهات المانحة للمساعدات. حينها، سيرضخ الجميع للتعامل مع الوقائع الحقيقية على الأرض، وستختفي البروباغندا التي تسعى لشيطنة الفلسطينيّين وإلصاق تهمة الإرهاب بهم وهُم يدافعون عن حقوقهم ووطنهم المحتل. سيضطرّ الجميع للتعامل مع الفلسطينيّين ببراغماتية منكشفة طالما أنّ مصالحهم تتطلّب ذلك. هذا جزء من التفكير الإستراتيجي: أن تجعل عدوّك يدرك أنّ مصالحه لا تتحقّق إلّا بتحقيق مصالح مقابلة لك.
ليس السلاح هو الفائز دوماً في معركة الإرادات، وبخاصّة مع عدوّ يتفوّق عليك بقدراته التسليحية النوعية. الأفضل هو تحريك مكامن القدرة (الناعمة)، وفي هذا الشأن يمتلك الفلسطينيون منجماً كبيراً لا ينضب من الإرادات البشرية الطموحة والطاقات الثقافية الخلّاقة.
* كاتبة من العراق
هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".
لقراءة الجزء الأوّل من الملفّ: اضغط هنا