تختلف السَّلطنة التي انتهى وجودها القانوني، الذي استمرّ 622 عاماً، وأُلغي بموجب القرار الأعلى لـ"مجلس الأمّة التركي الكبير" عام 1922، عن الدولة العثمانية. الدولة العثمانية هي مرحلة طويلة ومهمّة في حياة الدولة في تركيا. بمعنى آخر، يشمل التاريخ التركي فترة طويلة، كان فيها للدولة العثمانية واسمها أهمّية خاصة، كهيئة سياسية استمرّت لمدة 622 عاماً. لذلك، فإن الدولة العثمانية هي جزء من وجودنا وحياتنا الدولية المستمرّة بلا انقطاع.
مع الجمهورية، تغيَّر شكل الدولة. تحوَّلت إلى جمهورية، واقتضى ذلك تغيير ما يجب تغييره في القوانين والمؤسّسات، وبقيت الأشياء غير الضرورية دون تغيير، واستمرّ الوضع هكذا. حسناً، ولكن هل أُلغيت جميع التشريعات والمؤسّسات السياسية والتجارية والاقتصادية للإمبراطورية العثمانية في عام 1923؟ أي الجمارك والمديرية العامة وبعض المدارس والمستشفيات والجيش نفسه، هل أُلغي كلّ ذلك؟ لا، هذه المؤسّسات مستمرّة حتى اليوم. فقط، تغيّر النظام وطريقة الإدارة. كان لدينا هيئة قيادة من الباشوات العثمانيين. عصمت باشا كان برتبة ميرالاي (عميد)، وحتّى في العهد العثماني، كان مصطفى كمال برتبة مِيرلِوا (لواء)، وكذلك كان فوزي باشا. كلاهما كان مشيراً قبل الجمهورية. ولا يمكن الحديث عن انقطاع في حياة الدولة، لأن حكومة أنقرة كانت تعترف بحكومة إسطنبول.
ولأن حياة الدولة كانت مستمرة بهذا الشكل، فإن الرأي القائل بأننا "لا يمكننا الاحتفال، كجمهورية، بالذكرى السبعمائة للإعلان عن التأسيس الرسمي لهذه الدولة، لأن هذا غير قانوني وممنوع" هو رأيٌ مجحف. في الواقع، لا يرتبط هذا الرأي بالإيديولوجية الجمهورية. إنه مظهر من مظاهر المشاعر الغريبة، ومن المستحيل أن يؤخذ على محمل الجدّ. وفوق ذلك، فإن الدولة العثمانية تشكل جزءاً مهماً في حياة هذه الأمة اجتماعياً وثقافياً. إن تغيير شكل النظام وإعلان الجمهورية واستمرار المؤسسات القديمة تحت مسمّى "الجمهورية" إلى جانب المؤسّسات الجمهورية، لا يهم بأيّ شكل من الأشكال علاقتنا بأجدادنا وحياتنا الاجتماعية والثقافية. نحن نعلم أن الأمر كذلك. نحن جمهوريون، لكنّ هذا لا يعني أننا نتجاهل العثمانيين.
التاريخ تدريبٌ لا نهاية له كالتدريب الرياضي أو الموسيقي
إن تفسير الجمهورية على أنها "رفض الإمبراطورية العثمانية" هو رؤية سياسية واجتماعية محدودة. إنها ردُّ فعل على التطابق المُفرِط للعُثمانية مع دين أو طائفة أو عرق معين. لا يمكن تجاهل مثل هذه المشاعر، لأنه حتى في روسيا البلشفية، لا يُرى مثل هذا الهوس بـ"رفض الإرث". لم يكن الموقف هكذا حتى في مرحلة الجمهورية. فالشخصيات التي أسّست الجمهورية التركية لم تكن بهذا القدر من العداء للعثمانيين. ليس شرطاً أن يكون الرافض انتقامياً. الذين أسّسوا الجمهورية هم الأشخاص الذين أعادوا تشكيل الوجود القانوني للإمبراطورية العثمانية في التحوُّل للجمهورية، ولم يكن لديهم مثل هذه الأفكار غير الطبيعية. لذلك، لا يمكننا أن نقول إن الرأي المذكور أعلاه له علاقة بالحقيقة.
احتفل البُلغار بالذكرى 1300 لتأسيس الدولة البلغارية عام 1981، وأقاموا العديد من المؤتمرات في هذه المناسبة. وقد شاركتُ في المؤتمر البلغاري الأوّل في صوفيا. في ذلك الوقت، تمّت مناقشة موضوع بلغاريا الماركسية اللينينية. لم تكن أسئلتهم من نوعية: "ما علاقتنا بهم؟". هذا هو الحال في كلّ مكان. لذلك، ليس من الممكن بالنسبة لنا الخوض في الكثير من الانقسامات. هذه العقلية تكمن هنا في بعض القوميات الغريبة الخاصة بنا.
ما هي النظرة التي يجب تطويرها من أجل فهم الإمبراطورية العثمانية بشكل صحيح؟ هذه ليست معرفة يتمّ تحصيلها في وقت قصير. التاريخ تدريبٌ لا نهاية له، يشبه تدريبات الرياضي أو الموسيقي الذي يعزف كلّ يوم. إن ماريا كالاس وآرثر روبنشتاين كانا يتدربان كلَّ يوم. إذا لم يعمل روبنشتاين كلَّ يوم، فلن يتمكّن من تقديم حفلاته المعتادة، وفوق ذلك، قد لا يُلاحَظ هذا الانخفاض في يوم أو يومين، لكنّ جودة أدائه ستنخفض بمرور الوقت. ولذلك، كان روبنشتاين يقول: "إذا لم أفتح غطاء البيانو لمدّة أسبوع، فلن أقدر على تقديم الحفل". الانتكاسات الفنية ستبدأ مع ماريا كالاس، ولن تتمكن من غناء الألحان التي اعتادت عليها. وبلا شك، لا يمكن للمتسابق الذي لا يتدرّب كلّ يوم في السباق الخماسي أن يستعيد لياقته ويحافظ عليها.
في علم التأريخ أيضاً، لا ينبغي التفكير بطريقة "أنا أقرأ وأعرف". يجب الاستمرار في القراءة والبحث، لأن الآراء تتغيّر باستمرار، وبعض الأحكام القاسية تلين بعد ذلك، ومن الممكن لاحقاً أن تُصدر أحكاماً معاكسة في بعض القضايا. من الممكن ألا تُحبَّ "جمعية الاتّحاد والترقي"، ولكن يمكنك فهمهم ومسامحتهم. على العكس من ذلك، من الممكن أن يعلِّموكَ حبَّ "الاتحاد والترقي"، ومع مرور الوقت تبدأ التفكير في أنها جمعية "غير مجدية".
عندما يُقال التاريخ العثماني، فكيف يمكن النظر إليه؟ يجب قراءة كلّ المراحل. المؤرّخ ليس لديه تخصّص. لا ينبغي أن تقول: "أنا أدرس القرن التاسع عشر أو القرن العشرين". لا يمكنك أن تضع حدوداً للزمان أو المكان. ولا يمكنك أن تقول أيضاً: "نحن مؤرّخون عثمانيون، فما علاقتنا بفرنسا؟". يجب معرفة تاريخ اليونان القديمة وروما أيضاً. لهذا السبب، إذا تمّ تفسير التاريخ التركي بطريقة منعزلة وبسيطة اليوم، فإن ضيق الأفق أو الكسل سيكون له النصيب الأكبر في هذا العمل. وفي الأساس لم يكن التاريخ العثماني، خلال ستة قرون، كياناً منعزلاً ومنفصلاً عن العالم.
أولئك الذين لا يقرؤون التاريخ ولا يعرفونه يرسمون بيئتهم الخاصة. على سبيل المثال، يقولون ببساطة: "ما علاقة العثمانيين بنا؟". هذا أمر خطير، يعني غياب الوعي التاريخي، وأن هؤلاء ليس لديهم النيّة لمراقبة وفهم وإعطاء معنىً لحدث الاستمرارية في التاريخ. هذا هو السبب في تكرارهم لنفس هذه الشعارات العبثية.
نحن جمهوريون، لكنّ هذا لا يعني أننا نتجاهل العثمانيين
كيف كان العثمانيون يعرِّفون أنفسهم؟ هناك آراء متنوعة للغاية في هذا السياق. اعتبر العثمانيون أنفسهم مسلمينَ وأتراكاً. لكنْ هناك أيضاً عثمانيون غير أتراك وغير مسلمين. مثلاً، يرى التاجر الأرمني الإمبراطورية العثمانية كمجتمع آمن ومُنظَّم، وقابل للنظام العام والتقدُّم ضمن تقاليد الإمبراطورية. هذا جانب مهمّ جدّاً. ويفكّر: "هذه الدولة لا تفرض علينا عقوبات غير تعاقدية". من الواضح تماماً أن هذا الأمر يخلق جوّاً من التقارب الثقافي.
يمكن طرح سؤال آخر، مثل: "ما هي تأثيرات العثمانيين في يومنا هذا؟". بالطبع، هناك أجزاء حيَّة من هذا الإرث، فنحن نفس الأمة. وقد شهدت تركيا تغيُّراً ثقافياً كبيراً. يتحدّثون عن مقاومة الإرث العثماني. هذا موضوع من الممكن مناقشته. النظام العثماني هو نظام أهل هذا المجتمع وأجدادنا وتقاليدنا. من غير المعروف مدى ملاءمة هذا التطوّر بالنسبة له، وكم خرج عن القواعد.
النظام العثماني لا يعني مجرّد نظام شموليّ يسيطر على كلّ شيء وفي يده العصا. إنه يقوم بإصلاحات مستمرّة ويغير نفسه. من الضروري الوقوف عند هذه الحقيقة.
لم يكن التاريخ العثماني كياناً منعزلاً ومنفصلاً عن العالم
إذا وصلنا إلى إشكالية النظر إلى الجمهورية التركية على أنها استمرار أو امتداد للإمبراطورية العثمانية، فإن الأراضي التي تأسّست عليها الجمهورية التركية هي موطن الدولة العثمانية، لهذا السبب تستمرّ الدولة مع الجمهورية. نحن بالطبع امتداد للإمبراطورية العثمانية بلغتها ودينها وأرضها وشعبها. تركيا ليس لديها مثل هذا الحق في "رفض الإرث". هذا أمر غير مقنع، وبينما كانت الأحداث الأرمنية قيد المناقشة، قال البعض: "الدولة العثمانية هي التي فعلت ذلك، ونحن دولة أخرى". هذا هراء كبير. إذا كانت هناك إبادة جماعية للأرمن، فإن أجدادنا هم من ارتكبوها. وإذا لم يكن هذا قد حدث بالفعل، فإن أجدادنا أبرياء.
يدَّعي البعض أنه مع إلغاء السلطنة والخلافة، تأسّست الجمهورية، كدولة جديدة، على إنكار الدولة العثمانية كدولة جديدة. مع إلغاء السلطنة والخلافة، لا يمكننا أن نقول إن الهيكل المؤسّسي للدولة العثمانية قد تفكّك. نعم، كان هناك تغيير في بنية سلطة الدولة مع السلطنة والخلافة. ومع ذلك، استمرّت معظم مؤسّسات الدولة. ونظراً لأن مؤسّسة الخِلافة كانت بالفعل مؤسّسة قد فقدت وظيفتها وتأثيرها مع القرن العشرين، فإن إلغاءها لم يؤثّر بشكل كبير على السياسة الداخلية والخارجية للجمهورية. في وقت قصير، نجحت تركيا في أن تصبح مجتمع مواطنة. لعبت التطوّرات في الدولة العثمانية دوراً مهمّاً في هذا الأمر. فقد كانت المؤسّسات السياسية والإدارية ــ مثل الأحزاب السياسية والبرلمان المنتخب ــ حاضرة في الدولة العثمانية أيضاً. وعلى الرغم من أن البنية السياسية والإدارية الموروثة من الدولة العثمانية لم تكن مُرْضية للغاية، إلّا أنها بلغت مستوى معيناً من التطوّر.
اليوم، إذا كانت هناك معوّقات في الصناعة والهيكل الإداري في تركيا، فمن الضروري البحث عن جذورها في الدولة العثمانية. هناك شيء أقوله دائماً للمثقّفين الأتراك: ليس لدينا رفاهية رفض أو عدم تبنّي الإرث العثماني، وليس لدينا الحقّ في مثل هذا الخيار. نحتاج أن نقرأ القرن الماضي، لنكون في حوار معه. اليوم، يُكوّن بعض الناس أفكارهم من خلال قراءة "التاريخ العثماني المُصوَّر". لا يستطيع هؤلاء ــ بمثل هذا المستوى من المعرفة التاريخية ــ مناقشة الإرث العثماني في تركيا. حتى لو تمّت مناقشته، سنقع في تشوّش فكري مثل الذي نحن فيه اليوم.
* النصّ فصلٌ من كتاب "حقائق التاريخ الحديث" الذي تصدر نسخته العربية منتصف هذا العام
بطاقة
تتنوّع انشغالات المؤرّخ التركي إلبَر أورطايلي (1947)، حيث يهتمّ بتاريخ المدن، وتاريخ المؤسّسات، والتاريخ الثقافي، بالإضافة إلى دراساته حول الدبلوماسية. معروفٌ عنه إتقانه أكثر من 15 لغة، من بينها العربية. من أبرز مؤلّفاته: "التاريخ الإداري لتركيا" (1979)، و"التأثير الألماني على الدولة العثمانية" (1980)، و"صفحات من إسطنبول" (1986)، و"السلام العثماني" (2004)، و"كيف يبني الإنسان مستقبله؟" (2007).