في كتابه "جان فرانسوا ليوتار ونقد الفكر الشمولي" الذي صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يضيء الباحث المغربي السعيد لبيب آراء الفيلسوف الفرنسي (1924 – 1998) وأفكاره في ثلاثة ثلاثة أقسام، هي: المعرفة، والأخلاق والسياسة، والفن والجماليات، بحيث إنها تعبر عن "ترحالات" ليوتار وتنقّله بين الفكر والسياسة والفن.
عمد ليوتار، من خلال مداخل متنوعة يربط بينها تحليل اللغة والإبستيمولوجيا والاقتصاد والسياسة، إلى التفكير في التحولات التي شهدتها وضعية المعرفة في العصر الراهن، وذلك بالانطلاق من رهان أساسي هو محاولة تبديد وَهْم تعالي المعرفة العلمية، أو تساميها، على سائر الأشكال المعرفية الأخرى، من خلال كشف النقاب عمّا يختفي خلف المعرفي من شرعنة، وتوزيع للسلطات، ورقابة، ورأس مال ... إلخ، وباختصار كل ما هو سياسي، بحسب الكتاب.
ويوضح أن التاريخ الذي استُجِدّ مع هذا التغيير في العلوم وأثره في حياة المجتمعات الأكثر تقدمًا جعل ليوتار يفكر في فهمٍ يتجاوز السطح نحو أعماق وقواعد تلاقي المعرفة والسلطة. إنها سلطة جاءت على أشكال معارف الفلسفة والثيولوجيا ومناهج البحث، ومعرفة جاءت على شكل مجموعات البحث العلمي والمؤسسات الجامعية والعلماء، فلم تعد المعرفة جزءًا من حركية التاريخ الذي يسير وفق خطٍّ مستقيم يحقق آمالًا وطموحات، بل خرجنا اليوم من ما قبل تاريخ مجتمع المعرفة، لندخل إلى مرحلة غدت فيها المعرفة رهانًا سياسيًّا خاليًا من الأبعاد الإنسانية التي تأسست في زمن الحداثة انطلاقًا مما تحمله كلمة "الحداثة" من حمولات تقدمية؛ سياسيةً كانت، أو علميةً، أو اجتماعيةً، أو أخلاقيةً.
ويلفت الكتاب إلى أنه لا يمكن أن نفهم خصوصية قراءة ليوتار أعمالَ كارل ماركس من دون أن نعيَ سياقين داخلهما: فكر النص الماركسي، ومعالجته؛ فالسياق الأول هو سياق ذاتي مرتبط بالانخراط المعروف لليوتار في جماعة كاستورياديس المسماة "اشتراكية أو بربرية"، ثم انسحابه منها، وهو يشرح أسبابه في سيرته الفكرية الترحالات: القانون، المثال، الحدث. أمّا السياق الثاني، فهو سياق ثقافي - سياسي متعلق بالشهرة الكبيرة التي حظيت بها القراءة الألتوسيرية، وهي قراءة سيقف ضدها ليوتار، نظرًا إلى نزعتها الإبستيمولوجية المفرطة التي تروم إفراغ كتابات ماركس من أبعادها الأخرى، بدعوى أنها لحظات أيديولوجية لا ترقى إلى الصفاء العلمي الذي سيدشنه كتاب رأس المال.
كما يبيّن الكتاب أن معالجة ليوتار الفنون البصريةَ عرفت تحولات واكبت مساره الفكري. لهذا، كانت مرحلة نقد التحليل الفرويدي مرحلة أولى تجلّت في "خطاب وصورة" (1971) ثم مرحلة التحليل الفرويدي - الماركسي بعد كتاب "الاقتصاد الليبيدي"، وقد تجسدت في تحليله أعمال مارسيل دوشان من ناحية أخرى، اختصت المرحلة الثالثة بتتبع أعمال بعض الرسامين الصباغيين الطليعيين؛ أمثال بارنيت نيومان، وجاك مونوري، وفاليريو أدام ، وهيرومي أراكاوا، ودانيال بورين، وهي قراءات واكبت نصه الفلسفي الخلاف، وكانت أكثر تركيزًا على مفهوم "السامي"، إلى آخر مرحلة بدأ يزداد فيها اهتمام ليوتار بقراءة الأعمال الأدبية؛ مثل كتابيه عن مالرو ومقالاته عن فرانز كافكا وسارتر وجويس.
ويشير لبيب إلى أن تصور ليوتار يتناغم مع أدورنو في أهمية اللحظة الفنية بالنسبة إلى الفيلسوف، وأنه لا يمكن تجاوز الفلسفة؛ مثل "الحكم الذي يقول عنها إنها لم تقم سوى بتأويل العالم" الذي سرعان ما أبان تهافته بعد أن "فشل تغيير العالم"، لكن البراكسيس كان مبررًا لخنق كل فكر نقدي وإسكاته، بدعوى أنه فارغ وتافه، وبوصفه فكرًا لا يفيد هذا "البراكسيس المغيِّر"؛ (تكمن فائدة الفلسفة في عدم فائدتها)، وهو ما عبّر عنه فريدريش هيغل "باللا-مفهومي، الفردي أو الجزئي، أي ما نُحِّي منذ أفلاطون كمؤقت وغير ذي قيمة"، أي الميكرولوجي.