استمع إلى الملخص
- **يتكون الكتاب من ثلاثة أقسام: الأول يتناول أهمية السواحل التونسية وتأثير الحضارات المختلفة، الثاني يستعرض التقنيات المحلية في الصيد البحري والملاحة، والثالث يركز على تداخل المجموعات البشرية وتأثيرها على المنطوق اليومي.**
- **الفصل الخامس يجمع المنطوق اليومي وخصائصه بحسب المناطق، بينما يبحث الفصل السادس في تقاسيم الحياة اليومية للبحار وطقوسه، مشيرًا إلى دور المرأة في الحياة البحرية اليومية.**
ضمن "سلسلة أطروحات الدكتوراه"، صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب "تاريخ البحر في تونس وذاكرته في الفترة الحديثة بين المنطوق والمكتوب" للباحثة والأستاذة في كلّية الآداب والعلوم الإنسانية بـ"جامعة صفاقس" التونسية، الصغيرة بنحميدة، وفيه تتناول أحد عناصر المجال البحري في تونس، وهو عنصر "المنطوق" اليومي ومكتوباته المتناثرة، وتاريخه ومعناه والهجنة التي دخلت عليه وأسبابها وظروفها.
بالاستناد إلى منهجَي الإثنوغرافيا البحرية والأنثروبولوجيا، يُحاول الكتاب الكشف عن جزء من تاريخ تونس البحري، من خلال عنصر "المنطوقات" اليومية لهذا المجال شديد الاتساع وذي العناصر الكثيرة (العناصر البشرية، القرى البحرية، المدن الساحلية النشطة في مجال الصيد البحري والملاحة، الموانئ، المراكب البحرية وصناعتها وقيادتها، طرائق الصيد البحري وتاريخيتها، تاريخ الصيد البحري والملاحة ... وغيرها)، مقتصراً على منطوقات فترة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وجامعًا فيه المنطوق والمكتوب، والوثيقة والمعاينة الميدانية.
يحتوي الكتاب على ثلاثة أقسام، في كلّ قسم منها فصلان: في القسم الأول، الذي يحمل عنوان "البحر والمجموعات البحرية في تونس"، يتعرّض الفصل الأوّل، "المجال البحري في تونس"، لأهمية السواحل التونسية جغرافياً في تطوُّر الصيد البحري والملاحة والفصليات البحرية وحرفة صيدها ورصدها القديمة، وكيف ساعدت التيارات البحرية والتضاريس القاعية في الملاحة وتعمير السواحل التونسية ونشوء قرى ومدن منذ القرن الثاني عشر في تدعيم أنشطة الفلاحة في البدو والحضر، وتطوّر التجارة البرّية والبحرية حتى أواخر القرن التاسع عشر.
مبحثٌ لم تعتن به أعمال المؤرّخين وعلماء الأنثروبولوجيا التاريخية
ومن هذا التعمير والتجمعات، تكوّنت المنطقتان الساحليتان الشرقية والشمالية وما يحيط بهما من مجموعات سكّانية عربية وأوروبية استوطنتها في فترات تاريخية مختلفة، مثل الموريسكيّين والأندلسيّين، الذين امتهنوا أنشطة مختلفة، ولا سيما الصيد والتجارة البحريَّان وحراسة الموانئ وصناعة السفن. وتكوّنت كذلك المنطقة الساحلية الجنوبية، حيث العناصر العربية، والأُخرى المتوسّطية كالمالطيّين والإيطاليّين الذين استوطنوها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ونشطوا في الفلاحة والتجارة البرّية والبحرية والصيد البحري. ومن المنطقة الجنوبية تتكوّن السواحل الجنوبية الغربية التي تمتدّ حتى الحدود مع ليبيا، وتحوي خليج قابس وجزر قرقنة وجربة، وقد مارست مجموعاتها السكانية - ومعها مجموعات متوسّطية - نشاط الصيد البحري والملاحة.
يُعرّج هذا الفصل على مخلّفات الفينيقيّين والرومان البحرية في الصيد والملاحة، من لوحات فسيفسائية وشواهد أثرية، مثل بقايا أحواض تمليح الأسماك في سواحل قرقنة وبحيرة البيبان، كما يعرّج على الحضور العربي في المجال البحري، وفضله في التجهيزات البحرية والصناعة وتدعيم البحرية التونسية، وصولاً إلى الحضور العثماني، وما أسهمت به شعوب هذه الحضارات في نشاطات القرصنة والتجارة البحرية وتشكيل هوية المجال البحري التونسي.
ويُقدّم الفصل الثاني، "المجموعات البحرية ونشاطها على السواحل التونسية"، نبذةً عن أهمّ الجماعات البحرية وأصولها، وأسماء عائلات تقلّدت مناصب في المجال البحري، يُقال إن أفرادها لا يزالون حتى اليوم يمارسون الصيد البحري في تونس.
في القسم الثاني، الذي يحمل عنوان "بين المحلّي والوافد: تاريخ التقنيات في البحر"، يستعرض الفصل الثالث، "من إنتاج التقنية إلى إنتاج اللفظ المحلي"، التقنيات المحلّية في الصيد البحري والملاحة، وما يتواتر بشأنها من كلمات، مقدِّماً طريقة إنتاجها وأهمّ تسمياتها؛ وهي تقنيات يستعمل فيها البحّار مكوّنات محيطه الطبيعي (مثل أشجار الزيتون والنخيل والحَلفاء) للرصد وتكوين مصائد، وتستمدّ أسماءها من مجال الفلاحة أو المساكن التقليدية أو أسماء الحيوانات البرية.
كان لتسرّب التسميات الأجنبية أثر في تنوّع المجتمع البحري المحلّي
ويبيّن الفصل الرابع، "التسرّب التقني والانزلاق اللفظي"، أن هذه التقنيات وأسماءها سرعان ما استُبدلت أخريان بهما جاءتا مع العناصر الأجنبية المشتغلة في المجال البحري، صيّادين ومالكي أساطيل ومستثمرين. فسادت ألفاظ في تقنية الصيد مثل: "مانيقا" و"سكافندري" و"ماتنزا" و"لمبارا"... وغيرها؛ وفي أجزاء المركب وقيادته مثل: "أنتينا" و"سانتينا" و"أيصا"... وغيرها. فكان لتسرّب التسميات الأجنبية إلى مجال تونس البحري وما نتج من اختلاطه بالتسميات العربية أثر في تنوع المجتمع البحري المحلّي، وخطاب البحّار اليومي الذي وُجد محفوظًا في الذاكرة المؤرشفة.
ويبيّن القسم الثالث والأخير، "ثقافة البحر بين المنطوق واليومي"، أنّ تداخُل المجموعات البشرية، المحلّية والوافدة، واندماجها، تقنيّاً وألسنيّاً في تونس، انعكس إثراءً للمنطوق اليومي للعاملين في البحر. لكنّه ثراء بقي، في رأي المؤلفة، منقوصاً في أعمال المؤرّخين وعلماء الأنثروبولوجيا التاريخية. فخصصت الفصل الخامس، "المنطوق حول البحر: التوافق والاختلاف"، لجمع المنطوق اليومي على السواحل التونسية وخصائصه بحسب المناطق من المصادر المكتوبة والمصادر الشفوية، والبحث في توافقات نطقه واختلافاتها بين المناطق البحرية المختلفة على السواحل التونسية. وهو بحث قاد إلى تبيّن خصوصية كلّ منطقة، وبداية تشكّل ملامح ثقافة البحر.
أمّا الفصل السادس والأخير، "البحر واليومي: تشكّل ثقافة البحر"، فبحث تقاسيم الحياة اليومية للبحّار، وحضور البحر في عاداته وتقاليده المتصلة بالغذاء أو السكن أو اللباس، كما تتبّعَ مواطن عمل البحّار، ورسم مواطن تحركاته البحرية بأسمائها بحسب ذاكرة اليوم وأبعاد هذه الأسماء وحكاياتها. ويتطرّق الفصل أيضًا إلى طقوس البحّار في المناسبات، كالزواج والختان والخرجات البحرية وطقوس العلاقة مع الأولياء الصالحين، ليس الطقوس التي تختص بالرجل فحسب، بل بالمرأة أيضاً؛ فهي تشترك مع الرجل في يوميِّ البحر، في العمل، أو إعداد الشباك وتجهيزها للصيد، أو الاحتفال بالمناسبات، أو طلب الرجل عونها قبل الخروج إلى البحر.