حفّزت الانتفاضات العربية في 2011 و2012 موجة جديدة من البحث الدقيق حول سياسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكان المؤتمر السنوي لمشروع "العلوم السياسية في الشرق الأوسط" (POMEPS) في الولايات المتّحدة أحد المشاريع الرائدة منذ 2009.
المنجز الأخير لهذا المشروع كان كتاب "العلوم السياسية في الشرق الأوسط: النظرية والأبحاث منذ الربيع العربي"، الذي أُقيمت صباح اليوم الأحد ندوة إطلاقه في وحدة دراسات الدولة والنظم السياسية في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، وبرنامج العلوم السياسية والعلاقات الدولية في "معهد الدوحة للدراسات العليا".
والكتاب، الذي سيضطلع "المركز العربي" بترجمته إلى العربية، يقدّم جردة نظرية في حقل العلوم السياسية لهذه المنطقة من العالم خلال الثلاثين سنة الماضية. والضيوف المتحدّثون ثلاثة أكاديميّين أميركيّين شاركوا في تحريره، وهُم: مارك لينش؛ أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في "جامعة جورج واشنطن"، وجيليان شويدلر؛ أستاذة العلوم السياسية في كلية هانتر، وشون يوم الأستاذ المشارك في العلوم السياسية بجامعة تمبل.
يُحلّل الكتاب عبر عشرات الفصول مجموعة شاملة من الموضوعات، بما في ذلك الاستبداد والديمقراطية، والسياسة المثيرة للجدل، والأمن الإقليمي، والمؤسّسات العسكرية، والصراع والعنف، والاقتصاد السياسي للتنمية، والحركات الإسلامية، والهوية والطائفية، والرأي العام، والهجرة، والسياسة المحلّية.
حقل ضعيف
مارك لينش، الذي شارك في تأسيس مشروع "العلوم السياسية في الشرق الأوسط" وتلقّى الدعم من مؤسّسات بحثية، لاحظ أنّ دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة وأوروبا يُنظر إليها على أنها ضعيفة أو حقل معرفي هامشي.
وبما هو مشروع تشاركي، قال لينش إنهم بدأوا من الصفر لتوفير منابر بحثية وإعلامية لباحثين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واستقطاب باحثين جدد، مضيفاً: "واليوم لدينا عشرة مشاريع لكتب سنوياً، و40 مشروع بحث ومقالة، ونتعاون ونعطي منحاً صغيرة ونقيم شراكات مع مؤسّسات في المنطقة".
والكتاب، الذي نوقش في الجلسة، تأسّست لأجله عشر مجموعات عمل لبحث هذه العناوين المتعلّقة بالعالم العربي، دون تقييد لتفكير أي باحث، كما أكّد، وكان على المحرّرين الثلاثة مراجعة هذه المرئيات التي وصلت أخيراً إلى صدورها في كتاب الشهر الماضي.
وأضاف أنّ الكتاب استطاع تقديم أجوبة لدى الاشتغال فيه قبل نحو عامين "ببصيرة نافذة ونطاق بحث واسع"، ويعني تاريخ العمل في الكتاب أنه نظر إلى تجربة مضى عليها عقد من الزمن "اكتسحتنا فيه الحماسة"، مُشيراً إلى أنهم سمّوا ما وقع في ثورة يناير قصّة نجاح، لكن الأمر لم يكن كذلك، كما "تخيّلنا أنّ جدار الخوف قد انهار، لكن بعد عامين من الربيع العربي بُني الجدار بشكل أكثر رعباً"، على حدّ قوله.
علاقات ومحاور
أشار لينش، كذلك، إلى تناوُل الكتاب العلاقات الدولية والتحالفات والمحاور الجديدة؛ مثل محور الإمارات والسعودية، ومحور قطر وتركيا، الأمر الذي لم "نره في السابق"، والسلوك السياسي الدولي المؤثّر في مناطق كاليمن وليبيا وسورية وتونس والبحرين.
وعليه، فمن المستحيل، يضيف، رواية قصّة محلّية من دون أن يكون لديها بُعد دولي، والكتاب لا يسلّط الضوء على الطابع الدولي، بل على الروابط بينه وبين المحلّية. كما هناك مما يتضمّنه الكتاب حركات الجهاد الدولي والمجموعات المحلية والتفاعل بينهما. والإسلام السنّي والشيعي والأنماط غير الاسلامية للتطوّع عبر الحدود.
الانتفاضات
أمّا جيليان شويدلر، فعرضت مجموعة من الاحتجاجات والانتفاضات التي خُصّص لها الفصل الأول من الكتاب، قائلة إنه لا يقتصر على الكبرى منها، بل يفحص مجالات "ابتكارية" مثل دور الاحتجاجات المتعلّقة بحقوق العمّال والمرأة ومياه الشرب وما إلى ذلك.
كذلك، تناول الفصل الأجواء والمشاعر التي سيطرت في الميادين الاحتجاجية، من الخوف والفرح والاكتئاب. المخرجات، إضافة إلى الفشل والنجاح، برزت في سؤال راسخ: إذا لم يتغيّر النظام هل ستتغيّر المساحة السياسية المتاحة؟
وتناول فصلٌ آخر موضوع اللاجئين، وذكرت شويدلر أنّه هو ليس موضوعاً واحداً يخصّ الخارجين من البلاد، بل شمل التحرّكات السكّانية داخل المنطقة سواء القسرية أو الطوعية منها، مبيّنة أنّ اللجوء حدث إلى بلدان أصلاً كانت تعاني من أزمة اللجوء أصلاً، وأنّ بعض الحكومات شجّعت على قبول مجموعات لاجئين دون غيرهم.
النظام الشخص
آخر المتحدثين، شون يوم، تحدّث عن التزام الكتاب نظرياً وأثناء جمع البيانات، وتناوُله أسئلة دقيقة حول الشرق الأوسط: لماذا هناك مستوى عميق من الاستبداد في الشرق الأوسط، ولماذا تأخّر في النهوض الاقتصادي، ولماذا هناك نزاعات طائفية؟
وعلى ما قال، فلكيْ نربط بين النظريات والسياق والبيانات والآفاق المعرفية الجديدة، فإنّ معظم الأنظمة في المنطقة توصف بأنها أحادية والديمقراطية فيها تتراجع، حتى تونس، التي شهدت قصّة نجاح ما زالت، تعاني.
وفي ملاحظته، فإن الأنظمة الأحادية تستمر في مناطق مختلفة من العالم، وعلى عكس العلوم السياسية التقليدية التي تقول إنّ النظام الناجح يكون فيه حزبٌ حاكم (على سبيل المثال "الحزب الشيوعي" في الصين)، "فقد رأينا نمطاً موازياً في العالم العربي وتركيا منذ الربيع العربي. الأنظمة ترتكز على الشخصانية ومحورية السلطة بين أيدي الزعماء".
وواصل بأنه في غالب الأحيان، حينما يأتي القادة الجدد إلى السلطة، تتحوّل المؤسّسات ومعها قواعد اللعبة بشكل كبير، حتى أنّ الأطر من خارج المنطقة لا تفهم ما الذي سيقوم به القائد الجديد.
وختم بأنّ الكثير من القضايا السياسية المحلّية والوطنية لم تبق على حالها، بل إنّ السياسة هنا تغيّرت تغيّراً جذرياً وتراجعت الحدود بين ما هو دولي وما هو وطني، مع ثورة الاتصالات وتدفُّق الأموال من الخارج.