تطوّرت العمارة الفاطمية بشكل مباشر عن العمارة العبّاسية، وتأثّرت بشكل أو بآخر، بعناصر من العمارة الأندلسية والبيزنطية والقبطية والسريانية، وفي عصرها الذهبي نجحت في ابتكار أساليب هندسية وفنّية خاصة بها؛ شكّلت جسر العبور نحو فنون العمارة الأيوبية - المملوكية، والتي تمثّل اليوم الغالبية الساحقة من مجموع آثار العمارة الإسلامية، في كلّ من مصر والشام.
من الدعوة إلى الخلافة
تأسّست الخلافة الفاطمية في العام 909 للميلاد، شماليّ أفريقيا، بعد أن نجح الدُّعاة في تهيئة الأجواء لقدوم أبي القاسم عبيد الله الإسماعيلي (872 - 934م) من السَّلَمية، على مشارف بادية الشام، إلى القيروان في تونس الحالية، لتتمَّ مُبايعته خليفةً للمسلمين باسم المهدي، وليؤسّس دولة شمَلت معظم مناطق شمالي أفريقيا. وقد تحدّث الرحّالة والجغرافي الحسن بن أحمد المُهلّبي في كتابه الذي وضعه للعزير بالله الفاطمي (955 - 997م) عن فتوحات المهدي وخلفائه في الصحراء الكبرى، ومتاجرتهم مع بلاد جنوبيّ الصحراء.
ونتيجة لذلك حقّق المهدي وخلفائه ثروات هائلة من الذهب الذي استخدموه في بناء دولة قوية، سرعان ما تمدّدت إلى مصر والسودان وبلاد الشام، ولتنتقل العاصمة في عهد المعز لدين الله (931 - 975م) من المنصورية، قرب القيروان في تونس الحالية، إلى القاهرة في مصر. ولذلك فإنّ الأمثلة على العمارة الفاطمية تتوزّع على ثلاث مدن رئيسة شكّلت عواصم لهذه الدولة، بدءاً من المَهدية على الساحل التونسي، في الفترة ما بين 921 و948م، والمنصورية قرب القيروان، في الفترة ما بين 948 و973م، والقاهرة عند مدخل الدلتا المصرية، في الفترة ما بين 973 و1169م.
وإنْ كانت معظم آثار المهدية والمنصورية قد اضمحلّت بفعل تعاقُب الزمان، فإنّ الآثار الفاطمية في القاهرة ما يزال الكثير منها صامداً، وهو ما أتاح للباحثين دراسة فنونها وإضافاتها على العمارة الإسلامية التي شملت القصور، والمساجد، والتحصينات، والطرق، والمنشآت الخدمية، والجسور، وما شابه ذلك.
مدينة المهدية
كانت المهدية في حقبتها الذهبية مُحاطة بسور حصين، له بوّابة رئيسة، تؤدّي إلى شارع مركزي يُفضي إلى ساحة عامة، محاطة بثلاثة قصور. على الجانب الشرقي ثمّة قصر يُسمّى "دار الأمّة"، وكان يُستخدم لأغراض رسمية، وإلى الشمال قصر خاص للخليفة المهدي، وفي الجنوب قصر وَليِّ عهده أبو القاسم الذي عُرف لاحقاً باسم القائم بأمر الله (934 - 946م). بُنيت هذه القصور بالقرب من الساحل، وكانت تطلُّ على البحر، وكانت في "دار الأمة"، بحسب المصادر التاريخية، قاعة كبيرة تُعرف بـ"الإيوان الكبير"، وكانت هناك قاعة استقبال أُخرى تُدعى "القاعة البحرية" بجوار الميناء نفسه، لاستضافة حفلات الاستقبال الخاصة بالأسطول الفاطمي. وقد بُنيت هذه القصور بالحجر الكِلسي المحلّي الأبيض ذي الجودة العالية.
وخلافاً للقصرين الآخرين عثرت بعثات التنقيب على بقايا القصر الجنوبي فقط، حيث بلغت أبعاده حوالي 85 × 100 متر، وتبيّن أنّ له أبراجاً دائرية، ودعامات نصف دائرية على طول جدرانه الخارجية. وفي الداخل كان هناك فناء مركزي كبير، وفي الجانب الشمالي منه قاعة استقبال كبيرة مستطيلة الشكل مقسّمة إلى ثلاث بلاطات بواسطة صفّين من الأعمدة، وفي النهاية الخلفية للصحن المركزي كانت هناك حنيَة صغيرة، من المحتمل أن تكون عرش وليّ العهد القائم بأمر الله.
ويبدو أن هذا التصمصم مأخوذ عن قصور الأغالبة التميميّين، فقد تم العثور على تصميم مُماثل في موقع رقادة قرب القيروان، وهي عاصمة دولة الأغالبة. وكذلك عُثر على تصميم مماثل في قصر مدينة الزهراء الأموية في قرطبة، بُني في فترة مقاربة للمبنى الفاطمي. وبحسب الباحث الألماني فيليكس أرنولد، أستاذ العمارة الإسلامية في "معهد الآثار الألماني" بمدريد، فإن أبعاد هذه القاعة صُمّمت على شكل مُثلّث متساوي الأضلاع، حيث تقع حنية العرش في أحد أركان هذا المثلث. ويرى أرنولد أنّ المثلّث متساوي الأضلاع الذي كان يستخدمه الفنّانون والمهندسون المعماريون المُسلمون، كان يوفّر مجال رؤية مثاليّاً لبقيّة القاعة.
مدينة المنصورية
وسيراً على خُطى خلفاء بني العبّاس الأوائل، بدأ الخليفة المنصور بالله الفاطمي (915 - 953م) في عام 946م ببناء عاصمةٍ جديدة له أطلق عليها اسم المنصورية، في موقع يُدعى صبرا بالقرب من القيروان. وعلى عكس المهدية، التي بُنيت وفق اعتبارات عسكرية دفاعية، بُنيت المنصورية بهدف إظهار العظَمة والثروة المتنامية، فكانت مدينة باذخة في موادّ بنائها، وفي تخطيط قصورها ومرافقها، اعتمد المنصور الفاطمي في تخطيطها على أنموذج بغداد المُستديرة التي أسّسها سميُّه المنصور العباسي، حيث يحتلّ قصر الخليفة المركز، وتتوزّع المرافق حوله.
ويبدو أنّ المُبالغة في البذخ قد انعكست سلباً على المنصورية، حيث نُهبت خلال فترة الفوضى التي ضربت البلاد في القرن الحادي عشر الميلادي، ولذلك لم يبق للآثاريين منها سوى بقايا تُفصح عن ماضيها التليد. تفنّن مهندسو المنصورية في تصاميمهم المائية، حيث دلّت البقايا الأثرية على استخدام مكثّف للبِرك والقنوات بشكلٍ يختلف عمّا كانَ الحال عليه في برك القصور الأموية والعبّاسية والأندلسية السابقة لهذه المرحلة.
وقد تميّز أحد القصور بساحة واسعة مستطيلة الشكل تشغلُها بركة كبيرة، وفي أحد أطراف الفناء مجموعة من الغُرف وساحتان صغيرتان يُشبه تصميمهما القصور العبّاسية، وخصوصاً قصر الأُخيضر، وإلى حدٍّ ما قاعات مدينة الزهراء. ويتحدّث الفقيه ابن حَيُّون (توفي 974م)، وهو فقيه من أهل القيروان، عن أن قصر المنصور الفاطمي كان يُواجه بركة ماء كبيرة، وفي جهتها المقابلة قصرٌ آخر يتّصل به بواسطة جسر خاص. ويذكر ابن حيّون، وهو المعروف أيضاً باسم القاضي النعمان، أن الخليفة المعزّ أمر بنقل أعمدة أثرية ضخمة من سوسة إلى المنصورية لاستخدامها في بناء "القاعة الكبرى" الجديدة. وقد تم تأكيد هذه الرواية من خلال اكتشاف قطع من هذه الأعمدة في الموقع يبلغ قطرُها أكثر من متر واحد.
تأسيس القاهرة
بعد وفاة حاكم مصر المستقلّ التابع اسمياً للعباسيّين كافور الإخشيدي (905 - 968م)، دبّت الفوضى في مصر وجنوبي بلاد الشام نتيجة اختلاف خلفائه، فرأت النخب التجارية أنّ الحلّ يكمن عند دولة الفاطميين القوية الفتيّة والثريّة في الوقت ذاته، فراسل كبارُهم الخليفة المُعزّ، فأرسل قائده جوهر الصقلي (911 - 992م) على رأس مائة ألف محارب، وألف وخمسمائة جمَل محمّلة بالذهب والفضة، ففرّت أمامه عساكر الإخشيد.
وجاء في خطبة جوهر لأهل مصر، بحسب المقريزي صاحب كتاب "اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميّين الخُلفا" أن دوافع المُعزّ لأخذ مصر هي الدفاع عن البلاد ضدّ الروم البيزنطيّين الذين استطالوا وأطمعتهم أنفسُهم بالاقتدار عليها، واستنقاذها من المذلّة والخزي، وإقامة الحجّ الذي تعطّل، وتأمين الطريق وتجديد السكّة على عيارها، وقطع الغش، وحسم الظلم، وتخليص مصر من القحط والوباء اللذين نزلا بها.
غير أنّ المؤرّخين المعاصرين يرون أنّ ثمة دوافع أُخرى غير هذه دفعت الفاطميّين للقدوم إلى مصر، وهي الحلول محلّ العبّاسيين، والسيطرة على مصبّات الطُّرق التجارية في شرق المتوسط بعد أن طفح الذهب لديهم من التجارة مع منابع الذهب في أفريقيا السوداء والموانئ الإيطالية، على رأي المؤرّخ شاكر مصطفى.
فور وصوله عام 969م بنى القائد جوهر الصقلي مدينة ملكية بالقُرب من العاصمة القديمة الفسطاط، والتي أطلق عليها في البداية اسم المنصورية. وعندما وصل المعزّ عام 973م، تم تغيير الاسم إلى القاهرة، كان تصميم المدينة الجديدة مشابهاً لتصميم المنصورية، على الرغم من أنها كانت مستطيلة الشكل وليست مستديرة، ففي كلتا المدينتين كان هنالك مسجد يُسمّى الأزهر على اسم فاطمة الزهراء، ولكليهما بوّابات تحمل الأسماء ذاتها؛ مثل باب الفتوح وباب زويلة، وكان في المدينتين قصران متقابلان، واحد للخليفة والآخر لوليِّ عهده. ويُنسب لأرملة الخليفة المُعزّ، والدة الخليفة العزيز، عدد من المشيّدات في هذه المرحلة، خصوصاً في منطقة القرّافة، حيث أمرت ببناء المسجد الثاني في القاهرة، وهو جامع القرّافة عام 975م، على غرار جامع الأزهر، وكان به، بحسب المصادر التاريخية، حوالي أربع عشرة بوابة قبل أن يأتي عليه حريق في ما بعد، والذي لم يبق منه سوى محرابه الأخضر. كما أمرت والدة المُعزّ ببناء قصر القرّافة، وحمام عام، وحديقة مَلَكِيّة وغير ذلك من مرافق.
نهضة العزيز
تُعزى النهضة العمرانية الفاطمية للخليفة العزيز بالله الذي حكَم في الفترة ما بين 975 و996م، ولا شك لدى الباحثين والمؤرّخين المعاصرين في أنّ القاهرة أصبحت خلال عهده عاصمة عالمية غاية في الجمال والأناقة، تتوزّع حول مجمّع ملكي فخم مترامي الأطراف؛ يتكوّن من قصرين رئيسين، هما: "القصر الشرقي" (القصر الكبير)، و"القصر الغربي" (القصر الصغير)، يفصل بينهما شارع رئيس يمتدّ من الشمال إلى الجنوب يُسمّى حالياً شارع المُعزّ، وفي الوسط كانت هناك ساحة عامة كبيرة تسمّى بين القصرين، وهي قلب المدينة ومكان الاحتفالات العامة.
وبالتوازي مع النهضة العمرانية رعى العزيز نهضة فكرية وعِلمية وأدبية لا تخفى على أحد، فقد تحوّل الأزهر في عهده إلى جامعة يتلقّى فيها طلّاب العِلم من كلِّ حدبٍ وصوب الكثير من العلوم والفنون. وكانت قصور الوزراء، ومنهم الوزير الشهير يعقوب ابن كلس (930 - 991م)، ملتقىً للأدباء والعُلماء، إذ كان يجمع في قصره عدداً كبيراً من الموظّفين، يشتغل بعضُهم بنسخ كتُب الحديث، والفقه، والأدب، وبعض كتب العلوم والطبّ. وكانت في القاهرة مكتبتان كبيرتان هما: "دار العِلم" و"دار الحكمة" التي كانت تمدّها بكثير من المؤلّفات، لإطلاع الناس عليها، ولتزويد طلبة العِلم بالمراجع. وكان يُباح للناس أخذ ما يحتاجون إليه من المداد والأوراق. وكانت المناظرات بين العلماء تكاد لا تتوقّف، وبعضها يشهده الخليفة شخصياً، فيصلهم بالهِبات، ويخلع عليهم الخلع.
وفي هذه المرحلة ازدهر الشعر وبرز شعراء مشهورون، مثل ابن هانئ، وهو من إشبيلية في الأندلس، وعبد الوهاب بن نصر المالكي، وهو من أهل بغداد، وأبو العبّاس أحمد بن مفرّج. وفي ميدان الطب برع أبو الحسن علي بن رضوان، وفي مجال الرياضيات أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم. وفي الرحلات المقدسي البشاري صاحب رحلة "أحسن التقاسيم"، والحسن بن أحمد المُهلّبي صاحب "المسالك والممالك"، وفي مجال التاريخ أبو الحسن علي الشابشتي مؤلف كتاب "الديارات"، وأبو صالح الأرمني، ومحمد بن أبي القاسم المعروف بالمسبحي، وأسامة بن منقذ الشيزري.
ولا شك في أنّ الصفات المميّزة للخليفة العزيز هي التي حوّلت القاهرة إلى عاصمة الدنيا في زمنه، حتى أنها تفوّقت على بغداد ذاتها، ولكنّ بعض الباحثين المعاصرين يعزون هذه النهضة إلى وفرة الأموال المتأتّية من الإصلاحات الضريبية التي قام بها والده المُعزّ.
وأياً تكن أسباب هذه النهضة، سواء أكانت بسبب مميّزات الخليفة العزيز الشخصية، أم بسبب الثروة الكبيرة التي كانت تملأ خزائن الخليفة، فإنّ العزيز بالله هو الخليفة الأكثر تشييداً للصُّروح بين جميع الخلفاء الفاطميّين، حيث يُنسب له ما لا يقلّ عن ثلاثة عشر صرحاً من الصروح الكُبرى في القاهرة، بما في ذلك بناء وتوسيع القصور التي تمّ بناؤها في عهد والده، فقد بنى القصر الغربي، وأمر بمزيد من الإضافات لمجمّع القصر الشرقي، بما في ذلك الإيوان الكبير، وقصر الذهب. كما بدأ ببناء مسجدٍ كبير اكتمل بعد وفاته على يد خليفته الحاكم. ويُنسب إليه بناء الحصن والبلفيدير والجسر والحمّامات العامة.
توقّفت حركة العمران مع تراجع واردات خزينة الفاطميّين في منتصف القرن الحادي عشر، فدبّت الفوضى في الكثير من الأقاليم التابعة لهم، إلى أن ظهرت مجموعة من الوزراء الأقوياء، أمثال الوزير الأرمني بدر الجمالي (1014 - 1094م)، الذي أوقف هذا الانهيار، بل وبنى عدداً من المشيّدات العامة، ورمّم الكثير من الأبنية التي طاولها الدمار خلال فترة وزارته، وخصوصاً ترميمه أسوار وبوّابات القاهرة.
تأثيرات وتميّز
تظهر تأثيرات العمارة العبّاسية في مشيّدات الفاطميّين خلال عصرهم الذهبي، كما نلمح تأثيرات معمارية سريانية - بيزنطية في مرحلة الوزير بدر الجمالي. وخصوصاً أبراج البوّابات الثلاث الضخمة المرتبطة بجدران استنادية فوق الممرّات، إضافة إلى المثلّثات التي تدعم القِباب فوق ممرّات باب الفتوح وباب زويلة، والأقبية الأسطوانية المتقاطعة، حيث يرى بعض الدارسين المُعاصرين أنّ استخدام الأقواس نصف الدائرية وعدم وجود أقواس مدبّبة في هذه المرحلة، والأناقة في استخدام الحجر، يشكّل دليلاً على تأثير الأسلوبية السريانية في هذه المشيّدات، مُعتمدين في استنتاجاتهم على ما ذكره المقريزي في كتابه "اتعاظ الحنفا"، من أنّ بُناة البوّابات في عهد الوزير الجمالي، هُم ثلاثة رهبان من الرُّها فرُّوا من السلاجقة.
وهذه التأثيرات لا تعني أن المهندسين الفاطميّين لم يبتكروا أسلوبية معمارية وفنّية خاصة بهم، فقد ابتكروا القوس ذا الأربعة محاور، وهو تطوير كبير في بناء الأقواس التي ترتكز عليها القِباب، كما أنهم أصحاب مخطّطات المساجد المعمّدة، حيث الفناء المركزي محاط بأروقة مع أسقف مدعومة بأقواس ترتكز على أعمدة ذاتِ تيجان مورقة. ومن ابتكاراتهم البوّابات البارزة من الجدران، والقِباب فوق المحاريب، وزخارف الواجهات بالنقوش الأيقونية، والزخارف الجصية، والزخارف الخشبية ذات التفاصيل الفائقة المعروفة حالياً باسم "الأرابيسك"، كما يُعزى الكثير من مميّزات وتقنيات العمارة والتزيين الأيوبية إلى مدرسة العمارة الفاطمية.
* كاتب وباحث سوري فلسطيني