يرى العديد من الباحثين في تاريخ الأدب العربي أنّ من الصعب دراسة شعرٍ رموزُه من أمثال أبي تمام والبحتري وبشار بن برد بمعزل عن سياق ثقافي أشمل تمّ خلاله تحييد شعراء آخرين عُرفوا بقلّة نتاجاتهم، رغم أن ذلك تمّ لعوامل أكثر أهمية تتعلّق بخروج قصائدهم عن الذوق العام لنقّاد عصرهم، أو معارضتهم السياسية للحكم، أو لما تضّمنه من شتائم وفحش، أو لإخفاء سرقة معانيه وصوره من قبل شعراء مكرّسين.
من هولاء الشعراء المقلّين، يحضر محمد بن عبيد الله العُتبي القرشي الذي صدر ديوانه حديثاً بنسخة جمعها وحقّقها الباحث مجاهد مصطفى بهجت عن "معهد المخطوطات العربية" وضمّ خمسة وسبعين نصّاً من نصوصه، لا تزال ستّة منها موضع خلاف في نسبتها إليه أو لغيره.
ينفرد العتبي الذي عاش في العصر العباسي الأوّل بتراجيديا شخصية انعكست في قصائده، إذ فقَد ستّة من أبنائه الذكور بسبب الطاعون الذي حلّ بالبصرة، حيث عاش طوال حياته، ففاضت مشاعره بمجموعة من المراثي التي تعدّ الأشهر وتجاوزت نصف ما وصل من كتاباته، إلى جانب أشعار تضمّنت جانباً من فكره وطبيعة حياته التي قضى جزءاً كبيراً منها في اللهو والشراب.
تم تجاهل شعراء قدامى لخروجهم عن الذوق النقدي العام
يوضّح بهجت بأنّ القدماء لم يذكروا له ديواناً، لكن إشارة وردت حوله لدى ابن خلكان الذي رأى أن "شعره كثير جيّد، وهو من فحول الشعراء المحدثين" وكذلك وصفه الخطيب التبريزي في شرحه لحماسة أبي تمام بقوله "هو شاعر أديب مولّد رقيق الألفاظ والحواشي نظماً ونثراً" لكن ما بقي من شعره المتناثر في بطون الكتب لا يتناسب مع منزلته الشعرية، ومعظمه قطع ونتف وأبيات قليلة هنا وهناك.
يرثي العتبي ابنه أبا عمرو في قصيدة يركّز خلالها على تغيّر أحواله بعد رحيل أبنائه، حيث يرد فيها:
"وقد كنتُ حيَّ الخوفِ قبل وفاتهم
فلمّا تُوفّوا مات خوفي من الدهر
فلله ما أعطى وللهِ ما حَوى
وليس لأيّامِ الرزّية كالصّبر
ألا ليتَ أمّي لم تلدني وليتَني
سبقتكَ إذ كنّا إلى غايةٍ نَجري".
مائة بيتٍ من أصل مائتين واثنين وأربعين بيتاً ظلّت محفوظة إلى اليوم، تحمّل تفجُّع الشاعر بأولاده الذين غابوا وتركوه إلى حزن يلوب، فأتت لغته حادّة ملؤها التحسّر، قياساً بأقارب وأصدقاء آخرين رثاهم فأتى على ذكر مناقبهم وأخلاقهم بما يمليه الواجب وغرض رثائهم، حيث يقول بعد أن دفن أنجاله:
"يا ستّة أودعتهم حُفَر البِلى
لخدودهم تحت الجُبوبِ وِساد
منعوا جفوني أن يصافح بعضها
بعضاً فهنّ وإن قربنَ بعادُ
لمّا بقيتُ عمادَ بيتٍ مفرداً
قد أسلمت أطنابه الأوتادُ
لم تبقَ عينٌ أسعدتْ ذا عَبرةٍ
إلّا بكت حتى بكى الحسّاد".
وينبّه بهجت إلى أنّ مراثي العتبي احتوت القليل من المحسنّات البديعية والتشبيهات، حيث يميل إلى الوضوح والسهولة، ودقّة المعنى وجودته، والرصانة والجزالة، كما يكشف عن ثقافة عصره بما تعكسه المفردات من حياة الحضر مثل الرياض والبساتين والقصور ومعالم القبور، والألفاظ الدينية التي تسرّبت إلى شعر تلك المرحلة أكثر من سابقاتها، مثل الإحسان والرحمة والأجر والتسليم لأمر الله.
ويلفت أيضاً إلى هذه السمات بالإضافة إلى قدرته على توليد المعاني الجديدة جعلت أبي تمام أن يستعير منه في حماسته وكتاب الوحشيات، إذ ينبّه ابن المبرد إلى نماذج من أبيات حبيب الطائي توضّح ذلك التأثر ومنها:
"قالوا الرحيل فما شككتُ بأنها
نفسي من الدنيا تريد رحيلا
الصبر أجملُ غير أن تلدّداً
في الحبّ أحرى أن يكون جميلاً"
كما ينطبق الأمر على المتنبّي، بحسب نقد العكبري والحصري.
استعار شعراء مثل المتنبي وأبي تمام معاني شعره وصوره
وتنسب مصادر الأدب العبّاسي عبارات نثرية إلى العتبي لا تقلّ جودة وحسن صياغة عن قصيدته، ومعظمها يختصّ بخصال الناس وسلوكياتهم، وتدلّ على طول خبرته بمعشرهم، وهو الذي عاش أكثر من ثمانين عاماً، ومنها: "اجتمعت الحكماء على أربع كلمات وهي: لا تحملنّ على قلبك ما لا يطيق، ولا تعمل عملاً ليس لك فيه منفعة، ولا تثقنّ بامرأة، ولا تغتر بالمال وإن كثُر".
يكثر العُتبي، بحسب الكتاب، من شعره في الإخوانيات والأصدقاء في نصوص تعبّر أيضاً عن سلوكه وحياته الاجتماعية، فيمتدح معاني الوفاء وحفظ الأسرار للأصحاب، ويُنكر عتاب صاحبه وغضبه عليه من دون سببٍ، كما يشكو في بعض النصوص خيبة أمله في صاحبه الذي "يبنيه ولكنه يقابله بالهدم".
ويرمي بعض الأصحاب بالجهل والتخلّف، ويسلك بعضهم مع البهائم وهم يمشون القهقرى، ومنها قصيدة يقول فيها:
"إني تبدلّتُ بإخوان الصفا
قوماً يرونَ النبلَ تطويلَ اللّحَى
لا عٍلمَ دنيا عندهم ولا تُقى
غَدَوا صَغاراً ثُمَّ خَلوهُم سُدى"
لا يغفل الكتاب جانباً مهمّاً من سيرة العتبي، متمثلاً بروايته الأخبار وأيام العرب، ومعرفته العميقة بنوادرهم وطرائفهم، وآدابهم وأشعارهم، وكان حظّ بني أميّة وزمانهم كبير في رواياته، ويعود ذلك إلى نسبه الذي يعود إلى عتبة بن أبي سفيان، وربما لم تذكر مراجع التراث عن أمويّين غيره عاشوا خلال العصر العباسي وتركوا أخباراً تخصّ معاوية والحجاج والأحنف وجرير وغيرهم.
ومن رواياته ما نقله عن أبيه عبيد الله العتبي عن أول خطبة ألقاها عمر بن الخطّاب بتعليقه: "لم أرَ أقّل منها في اللفظ، ولا أكثر في المعنى"، أو في استحسانه الشاعر السيد إسماعيل الحميري الذي ضاعت أغلب قصائده بسبب موقفه السياسي المعارض، حيث يقول: "ليس في عصرنا أحسن منه مذهباً في شعره ولا أنقى ألفاظاً منه"، ويصف شعره أيضاً بـ"الشعر الذي يهجم على القلب بلا حجاب"، كما ينعت الأصمعي بالبخل ويقول عنه: "لو بُذلت الجنّة للأصمعي لاستنقص منها شيئاً".