بعد الإعلان عن برنامج الدورة الحادية والثلاثين من "مهرجان الفحيص"، الذي ينطلق في الخامس عشر من الشهر الجاري في البلدة التي يحمل اسمها (حوالي 15 كلم غرب عمّان)، ويتواصل لخمسة أيام، تُثار أسئلة حول أسباب تراجُع تظاهرة ثقافية تأسّست من رحم المجتمع المحلّي خارج وصاية المؤسّسة الرسمية الأردنية.
ولا يمكن الوقوف عند هذه الأسباب دون إشارة بسيطة تحمل دلالات ومعاني متعدّدة تتعلّق بغياب أرشيف يوثّق لحظة تأسيس المهرجان، حين استطاع اليسار الأردني في لحظة صعود لم تستمر طويلاً، تعميق علاقة الناس بتراثهم وعمقهم العربي من منظور حداثي، بعيداً عن مركزية خطاب السلطة في أحد الأرياف التي تمثّل الأطراف، رغم قربه من العاصمة.
وربما من الأجدر دراسة تلك اللحظة بارتباطاتها العضوية بالمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خلال العقود الثلاثة الماضية، قبل الخوض في أمور تنظيمية وإدارية ومالية، ليست سوى عوارض لانهيار القوى الحزبية والمدنية والأهلية، نتيجة استفراد منظومة الحُكم وهيمنتها على الثقافة والمجتمع، حيث يبدو نموذج "الفحيص" أفضل حالة دراسة للراهن الأردني.
بسبب الأحكام العرفية التي فُرضت في البلاد منذ عام 1957 وحتى "الانفراج الديمقراطي" سنة 1989، لجأت الأحزاب اليسارية إلى الجمعيات الخيرية، والنوادي الرياضية، و"رابطة الكتّاب الأردنيين"، من خلال أعضائها الناشطين في هذه المؤسّسات، حيث انتخبت على رأس عدد من هيئاتها الإدارية في مدن وبلدات أردنية مختلفة.
استعادت الدورات الأُول شخصيات طُمست في الإعلام الرسمي
خلافاً لمعظم الناشطين في تلك المناطق الذين غلّبوا خطابهم السياسي ومواقفهم الأيديولوجية في عملهم التطوّعي آنذاك، تصدّرت الثقافة والفنون والرياضة أولويات جيل من اليسار، برز خلال الثمانينيات في الفحيص، عبر حضورهم النشط والفاعل في نادي شباب البلدة الذي يعود إنشاؤه إلى الخمسينيات، واستطاعوا خلق مناخ تقدّمي اجتذب الأهالي، للمشاركة في مختلف الأنشطة التي أُقيمت في تلك الفترة.
منحت تلك الأجواء فرصة لظهور تعبيرات فنّية احترافية، كانت في مقدّمتها "فرقة الفحيص لإحياء التراث" التي أسّسها الباحث والموسيقي صخر حتر سنة 1982، وقدّمت الأغنية الأردنية برؤية معاصرة، عبر إعادة توزيعها في موسيقى آلاتية، واعتمادها على الكورال في تأديتها، إلى جوار تقديمها الموشحّات والأغاني الطربية، ونالت الفرقة تقديراً كبيراً على مدار سنوات طويلة قبل أن ينفرط عقدها، ثم تظهر محاولات لإحيائها مؤخراً.
استفاد اليسار من سياسات الانفراج الديمقراطي، بعد هبّة شعبية اندلعت في إبريل/ نيسان 1989، لمراكمة جهودهم السابقة طوال أعوام، لتتبلور فكرة إنشاء مهرجان يعبّر عن ذاكرة الناس وتراثهم، وينفتح في الوقت نفسه على الثقافة العربية؛ مهرجان تحت شعار "الأردن تاريخ وحضارة"، تصنعه بلدة لا يزيد سكّانها عن عشرين ألفاً، ويمثّل بقية بلدات الأردن التي توافد منها الآلاف حينئذ، لمتابعة دوراته الأولى، على وجه الخصوص.
لم تأت خصوصية التظاهرة الوليدة من تآزر أهل الفحيص التي انتظم أبناؤها متطوّعين في خلايا عمل، أوكل إليهم مهام الإدارة والتنظيم والاستقبال فحسب، إنما من الهوية التي أرادها الفحيصيون لمهرجانهم، بعد انطلاقه عام 1990، عبر استعادتهم رموز السياسة والمجتمع والثقافة في الأردن، والتي طمسها الإعلام الرسمي، بشكل يخالف أهداف "مهرجان جرش للثقافة والفنون" الذي يعكس وجهة نظر السلطة، ما سيشجّع مدناً أردنية أخرى على تأسيس مهرجاناتها بعد ذلك، مثل "الأزرق" و"شبيب" وغيرهما.
تراجع المهرجان مع الزمن لِعلل مسّت بنية المجتمع الأردني
وخصّص "ركن الشخصية الأردنية" لاستضافة ندوات تحتفي بشخصيات تُبرز تعدّد الأردن، وتنوّع تياراته السياسية والفكرية، وكذلك "ركن المدينة العربية" الذي تقوم فلسفته على تقريب المشتركات الثقافية والحضارية بين الأردن ومحيطه العربي، كما استضاف البرنامج الثقافي نخبة من الكتّاب والفنانين العرب، مثل: أدونيس، وسميح القاسم، وأحمد فؤاد نجم، وإلياس خوري، وسيد مكاوي، وصباح فخري، وآخرين.
تراجَع المهرجان مع مرور الزمن لِعلل مسّت بنية المجتمع الأردني منذ دخوله مرحلة التحوّل الديمقراطي التي استمرت أكثر من ثلاثة عقود -عمر المهرجان أيضاً- دون أن تحقّق أهدافها المنشودة، وبذلك أنهت السلطة حالة المعارَضة التي سادت خلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات، دون أن تبني مؤسّسات ديمقراطية وتعددية سياسية حقيقية. كان من أخطر نتائج هذه السياسات انهيار حالة المشاركة الشعبية، التي ارتبطت بأحزاب المعارضة، عبر انخراط الطبقات الدنيا والمتوسطة في الشأن العام، لتتمكّن الدولة من إعادة السيطرة على كلّ الجمعيات والروابط الأهلية، في مرحلة لا تزال تتواصل حتى اليوم.
مع إفراغ الدولة من أُطرها الحزبية والمدنية والاجتماعية، بالتزامن مع سياسات الخصخصة التي نتج عنها بيع أصول الدولة وشركاتها، هيمنت الأجهزة الأمنية، متحالفة مع رجال الأعمال الجُدد، على الفضاء العام، وتشكّلت نخبة جديدة تغيب الثقافة والفنون عن اهتماماتها، لتصبح مجرّد أداة تسلية وترفيه، من دون أن تحمل أية مضامين جدية، وتشتبك مع القضايا الراهنة.
اختار المنظّمون عبد السلام المجالي (1925 - 2023)، شخصية المهرجان لدورته الحالية؛ الأمر الذي أثار استهجان كثيرين رأوا أن اختيار رئيس الوزراء الأردني الأسبق الذي وقّعت حكومته على اتفاقية السلام (وادي عربة) مع العدوّ الصهيوني عام 1994، يتنافى مع الأسس التي قامت عليها التظاهرة، برفض سياسات التطبيع، وتأييدها نهج المقاومة ضد المحتل، ما يشهد عليه تأجيل دورتَي 2014 تضامناً مع الشعب الفلسطيني، في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على غزّة، و2006، إثر العدوان على لبنان.
في تفاصيل البرنامج الثقافي، اكتُفي بثلاث فعاليات فقط، إلى جانب ندوة حول شخصية الدورة، واحدة خُصّصت لتكريم ثلاث شخصيات أكاديمية وفنّية، هي: همام غصيب، وجولييت عواد، وأحمد ماضي، واثنتان حملتا عناوين فضفاضة، مثل "ليلة فحيصية"، و"المشهد السياسي العام في الأردن".
كما تُقام بعض الحفلات لمغنين عرب وأردنيين، وفعاليات ثابتة مثل الورش الفنية، ومعرض الكتاب، وبازار الحرف التقليدية، ومسرحيات الأطفال، غير أنها فعاليات رُكّبت على عجل بالمقارنة مع مفردات المهرجان في الدورات السابقة، بسبب شحّ الإمكانيات المادية، وانخفاض ميزانيته إلى أقل من نصف الميزانية التي رُصدت في العام الماضي، كما أنّ ساحة "مدرسة الروم الأرثوذكس" التي تحتضن العروض الموسيقية تقلّصت مساحتها، بسبب أعمال التوسعة، ما يعني أنها قد لا تستوعب نصف ما كانت تستوعبه.
العامل المادي يراه كثيرون ذريعة ليست مقنعة، حيث يمكن تقديم برنامج أفضل بهذه الإمكانيات، وأن ذلك تغطية على الخلل الأساسي في بنية المهرجان الذي لم يتحوّل إلى مؤسّسة حتى الآن، وظلّ يُدار بشكل ارتجالي وفردي من قبل الهيئات المتعاقبة على "نادي شباب الفحيص"، وأنّ المأسسة تتطلب نقداً ومراجعة لكل التجربة التي أُخرجت عن مسارها، وأصبح المهرجان الشعبي يشبه بقية المهرجانات الرسمية.