الكتّاب الأتراك والانقلاب على عدنان مندريس

27 مايو 2023
من محاكمة عدنان مندريس وقيادات في حكومته، 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1960 (Getty)
+ الخط -

يربط كثيرٌ من المؤرّخين الأتراك الانقسامَ المجتمعي، الذي تعيشه تركيا اليوم، بالصراع القديم بين التيارَين المحافظ والعلماني، اللذين ظهرا في نهاية الدولة العثمانية، والنقاشات حول مسائل الهوية، والشرق والغرب، والدين في المجتمع، والتي حُسمت بشكل واضح، مع بداية الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك، لصالح التيار العلماني.

إلّا أنّ فوز عدنان مندريس في انتخابات عام 1950 أحدث تغييراً كبيراً في تركيا، حيث اعتَبر معارضو مندريس، ومن بينهم القطاع الأكبر من النخبة الثقافية، أنه يبتعد بتركيا عن المسار الذي رسمه أتاتورك، وخصوصاً بعد خطاب مندريس الشهير، الذي قال فيه: "لقد قمنا بتعريب الأذان، وقَبِلنا بالتعليم الديني في المدارس، وسمحنا بتلاوة القرآن عبر الراديو. إنّ تركيا دولة مسلمة وسوف تبقى كذلك". وبعد عشر سنوات من حكم "الحزب الديمقراطي"، برئاسة مندريس، شهدت تركيا أوّل انقلاب عسكري، في مثل هذا اليوم، 27 أيار/ مايو، من عام 1960.

شهدت تركيا أوّل انقلاب عسكري، في مثل هذا اليوم عام 1960

وجّه الجيش ضربةً قاصمة للديمقراطية، في المقام الأوّل، وليس فقط للحزب الديمقراطي، بالتدخّل في إدارة البلاد بأوّل انقلاب عسكري، حيث أطاح بحكومة الحزب الديمقراطي، وجرى إعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس، ووزير الخارجية فطين رشدي زورلو، ووزير المالية حسن بولاتكان في المحاكمات التي تلت الانقلاب.

عدنان مندريس مع رفاقه في السجن - القسم الثقافي
عدنان مندريس مع أركان حكومته في السجن، 1960 (Getty)

وتولّت "لجنة الوحدة الوطنية" (الانقلاب)، المؤلَّفة من 37 ضابطاً من الذين خطّطوا ونفّذوا الانقلاب، والجنرال المتقاعد جمال غورسل، إدارة البلاد. وبهذه العملية، عطَّلت اللجنة العمل بالدستور، وأوقفت الأنشطة السياسية، كما جرت إحالة 235 جنرالاً ونحو 3500 ضابط إلى التقاعد، وفصل 147 أكاديمياً من الجامعات التي أُغلق عددٌ منها، وفُصِل 520 من وكلاء النيابة والقضاة. وهكذا فُتحت صفحة جديدة في الحياة الاجتماعية والسياسية لتركيا.

ولكن، ماذا كان ردّ فعل الكتّاب الأتراك على انقلاب عام 1960؟

تنبغي الإشارة هنا إلى أنّ عدد الكتّاب الذين سئموا من حُكم "الحزب الديمقراطي" ومندريس لمدّة عشر سنوات، وأرادوا إنهاء حكمه بأيّ شكل من الأشكال، لم يكن صغيراً. فقد أعرب عدد كبيرٌ من الكتّاب الذين عارضوا مندريس، سواء كانوا من "حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي" أم لا، عن سعادتهم عندما سمعوا بإعلان الانقلاب عبر الراديو. حتى أنّ بعضهم رحّب بالانقلاب الذي كان علامة سوداء في تاريخ الديمقراطية، في جو احتفالي.

لم يكن هؤلاء الكتّاب يعرفون أنّ هذا الجو الاحتفالي بالانقلاب سيكون مثل الكابوس بالنسبة إليهم هُم أيضاً في السنوات القادمة. فإذا كان الانقلاب على مندريس قد استهدف تيار اليمين المحافظ، فإنّ انقلاب عام 1980 سيستهدف اليسار التركي بشكل واضح.

من بين أبرز الكتّاب الذين اعتَبروا أنّ الانقلاب على مندريس "ثورة تصحيح" لإعادة تركيا إلى مبادئها العلمانية، الشاعر جمال ثريا. كتب ثريا العديد من القصائد المُعارضة لحكم مندريس، واستخدمها المتظاهرون كشعارات في مظاهراتهم بالشوارع والجامعات التركية آنذاك.

ومن أشهر قصائد ثريا في هذا السياق قصيدة "555K"، وكانت تدعو الطلّاب اليساريّين إلى الاحتجاج على حكومة "الحزب الديمقراطي"، بعد أن فتحت الشرطة النيران على إحدى المظاهرات وقتلت الطالب اليساري توران إيميكسيز في "ميدان بيازيد" بإسطنبول. وعنوان القصيدة يشير إلى الدعوة للتظاهر في "ميدان كيزيلاي" بأنقرة في الساعة الخامسة صباحاً، يوم الخامس من الشهر الخامس عام 1960.

كما ذكر جمال ثريا، في يومياته، الكثير من الحكايات حول معارضته حُكمَ مندريس وتأييده انقلابَ الجيش عليه، حتى أنّه أشاد في إحدى قصائده بالدستور الذي وضعه الانقلاب العسكري، من خلال تشبيه الدستور بـ"الوردة". يقول: "لقد نشأتُ بين ثلاثة دساتير/ الأوّل مثل الأكاسيا، والثاني مثل الوردة، والثالث مثل الزقّوم"؛ في إشارة إلى الدستور الأوّل الذي وضعه أتاتورك عام 1924، والدستور الذي وُضع في فترة الانقلاب العسكري عام 1960، ودستور انقلاب أيلول/ سبتمبر 1980.

ومن أكثر الأسماء الأدبية التي أثارت الجدل في تلك الفترة، الروائي أحمد حمدي طانبينار؛ فهو من الكتّاب المحسوبين على التيار المحافظ في تركيا، وحظيت أعماله بإعجاب شديد وسط هذا التيار. ورغم ذلك، تفاجأ الجميع، بعد انقلاب 1960، بأفكار طانبينار حول الانقلاب على مندريس؛ حيث هاجم بشدّة حكومة "الحزب الديمقراطي" ومندريس في كتابَيه "ملاحظات حول تاريخنا الحديث" و"الجريمة الاجتماعية والعدالة الإنسانية"، وفي مذكّراته التي تحمل عنوان "الذكريات والأفكار".

الروائي أحمد حمدي طانبينار
أحمد حمدي طانبينار

والغريب أن طانبينار لم يرحّب فقط بسجن مندريس وبعض الوزراء، لكنه أذهل قرّاءه بما كتبه بعد تنفيذ إعدام مندريس، حيث كتب أنّه يستحق ذلك. وعن منفّذي الانقلاب، قال: "أنا ممتنّ لهؤلاء الرجال. لقد أنقذونا من وحشية الحزب الديمقراطي، وقاموا بتطهير البلاد". وبعد نشر صور مندريس وأصدقائه معلَّقين على حبل المشنقة في الصحف، كتب طانبيار في 20 أيلول/ سبتمبر 1961: "يبدو كالمسكين الأحمق. كم مرّة منحه عصمت إينونو باشا الفرصة. لقد كان رجلاً محبوباً في البداية".

ومثلما دافع بعض الكتّاب، مثل جمال ثريا وأحمد حمدي طانبينار وأتيلا إلهان وفاضل حسني داغلارجة، عن انقلاب 1960 في قصائدهم وكتاباتهم، واعتبروه خطوة لتصحيح مسار تركيا، واتّهموا مندريس وحكومة "الحزب الديمقراطي"، عارض كتّاب آخرون هذا الانقلاب، وتعرّض بعضهم للاعتقال أيضاً. وأوّل من يتبادر إلى الذهن في هذا السياق هو الشاعر نجيب فاضل. وقد عُرف عنه دعمه لمندريس في كلّ مناسبة، في الصحف والمجلّات وفي الندوات التي يقدّمها. كما عبّر عن ذلك في قصائده أيضاً.

هلّل كتّاب للانقلاب وعارضه آخرون؛ وبعضُهم تعرّض للاعتقال

جرى اعتقال نجيب فاضل عام 1960 بعد الانقلاب مباشرةً، في قضية "الاستيلاء المغطّاة"، وحُوكم شعراء وكتّاب آخرون مثل الروائي بيامي صفا والشاعر أورهان سيفي، في هذه القضية بتهمة التصرّف في أموال مؤسَّسات الدولة باعتمادات مقنَّعة. ومن بين الشعراء الذين تعرّضوا للاعتقال بعد الانقلاب فاروق نافذ تشامليبل، حيث سُجن لمدّة 16 شهراً بعد الانقلاب. وعبّر عن أيام سجنه في قصائد ديوانه "جدران الزنزانة".

يقول في قصيدة له بعنوان "يوسف": "في الليل ينام المساجين مصطفِّين في الزنزانة، مثل يوسف/ أقرأ أحلامهم الصفراء في وجوههم/ بعضهم يرى نفسه على طاولة الإعدام، وبعضهم يرى نفسه على الصليب/ ويبحثون عن أيامهم في الزنزانة".

الشاعر نجيب فاضل
نجيب فاضل

جديرٌ بالذكر أنّ الموقف من عدنان مندريس والانقلاب عليه، بقي موضوعاً خلافيّاً بين الكتّاب الأتراك حتى الآن. وما زال التيار المحافظ في تركيا يرى أنّ ما حدث عام 1960 جرى تناوله في الأدب من وجهة نظر اليسار فقط؛ حيث تناول كثير من الروائيّين الذين شهدوا هذه الفترة، الانقلاب في رواياتهم.

من أبرز هذه الروايات: "سيّدة المزرعة" لأورهان كمال، و"وحيداً يوماً ما" لوداد توركالي، و"مائدة الذئاب" لأتيلا إلهان. وتعكس هذه الروايات أجواء الضغط السياسي قبل الانقلاب العسكري، والتضييق على اليسار من خلال مؤسّسة "مكافحة الشيوعية" التي أسّسها مندريس.

المساهمون