استمع إلى الملخص
- يسلط المقال الضوء على "ثالوث الشر" المتمثل في المال والترند وتجريف المعرفة، الذي يهدد الثقافة بتقديم محتوى مبسط وسريع على حساب التعمق والفهم الحقيقي.
- يدعو الكاتب إلى العودة للمصادر التقليدية للمعرفة والتعمق في البحث، محذراً من الضحالة المعرفية التي تروجها وسائل الإعلام الحديثة.
جُنّ كثيرون حين ظهرت البروفسورة، ميري بيرد، في برنامج "نيوزنايت" الإخباري على شاشة "بي بي سي" في آب/ أغسطس الماضي، وصوّبت سهام نقدها اللاذعة إلى إيلون ماسك. كان موضوع الحديث الإمبراطورية الرومانية، ونقول لغير العارفين إنّ بيرد إحدى أهم المختصّين في الإمبراطورية الرومانية، إنْ لم تكن أهمّهم على الإطلاق اليوم، إذ درّست التاريخ الروماني في جامعات بريطانية وأميركية عدة، وألّفت كتباً كثيرة للمختصّين ولغير المختصّين، قبل أن تتفرّغ للبرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية.
إذن، ليست بيرد هي الغريبة عن محور النقاش، بل هو إيلون الذي نبش فريقُ إعداد البرنامج إجابة له على "إكس" (تويتر سابقاً) عن سؤال عن كمّ الوقت الذي يفرّغه للتفكير في الإمبراطورية الرومانية (التي استُعيدت في خطابات اليمين الأبيض)، ليردّ بأنّه يشغل تفكيره "يومياً". وكان تعقيب بيرد بسيطاً لاذعاً ثاقباً، حين قالت: "إنْ كان لي أن أحذّر أي أحد الليلة، فعليهم -في حال رأوا تغريدة لماسك عن الإمبراطورية الرومانية- أن يسارعوا إلى المراجع والبحث، فما يقوله ماسك في تسع مرات من عشر ليس إلا محض زبالة" ("لغو" هنا لا تؤدّي الغرض بدقّة).
هذا تعقيب جميل ودقيق وواضح، والأهم أنّه صادر عن مرجعية علمية بارزة، غير أنّ جمهور ماسك لم يقبلوا أن تُصحَّح زلّات كبيرهم الذي لا يأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه، وشنّوا هجوماً ذكورياً قذراً لم يكترث للمادة العلمية بل بصاحبتها. ولكن، لا يصحّ أن نكتفي بهذا حتّى لو كان أحد الطرفين أكثر تخصصاً من الآخر، إذ لعلّه أكاديمي جامد جاف نخبويّ، على عكس ماسك "الكول"؛ بيد أنّ الواقع مناقض لهذه الصورة بالمطلق، إذ إن بيرد لم تحبس نفسها في برجها الأكاديمي العاجي في كيمبردج وشيكاغو، بل كان مشروعها الأكاديمي البحثي موازياً لمشروعها التثقيفي الذي يهدف إلى تبسيط المادّة العلمية التاريخية المرتبطة بالرومان من دون الإسفاف، ولا أدلَّ على ذلك من كتابها "SPQR: تاريخٌ لروما القديمة" الذي بات عُمدة أساسية في المراجع التاريخية عن الرومان لدى المختصين والقارئ العادي على السواء، فضلاً عن برامجها التلفزيونية الوثائقية الكثيرة التي عمدت فيها إلى تقديم شكل جديد للبحث التاريخي حين تتبّعت تاريخ الرومان في مدنهم الأصلية.
مقارعة هذا الثالوث هي شرط لاستعادة ما يمكن استعادته
ما المشكلة إذن؟ هنا نأتي إلى ما يمكن أن نسمّيه "ثالوث الشر" الذي يهدّد المعرفة والثقافة اليوم، أعني المال و"الترند" و(تجريف) المعرفة. وما من مبالغة لو قلنا إنّ مقارعة هذا الثالوث هي الشرط اللازم والكافي لاستعادة ما يمكن استعادته من المعرفة والثقافة وجوهر النقاشات الجادة. وليس الأمر مقتصراً على إيلون (كي لا ينطّ جمهوره المخلص من أبناء جلدتنا الأعزاء)، بل لعلّ الأمر بدأ ببيل غيتس، ومنه إلى باقي المليارديرات والمؤسسات الإعلامية الضخمة التي سارعت إلى اقتناص وسائل المعرفة الحديثة كي تلجمها، بغية تقديم شكل أوحد للمادة المعرفية يكون سلساً بسيطاً سريعاً ومختزلاً بدرجة مرعبة. لمَ عليك قراءة كتاب بيرد بصفحاته التي تفوق الستمائة إنْ كان ماسك أو أحد مريديه سيقدّمه في تغريدات معدودة، ولمَ ينبغي لنا ملاحقة بيرد في وثائقي يقارب أربع ساعات عن الرومان إنْ كان ثمة من يقدّم كبسولة فيديو على "يوتيوب" في ربع ساعة؟
حتّى دُور النشر انزلقت إلى هذا المستنقع، وباتت إصداراتها تعتمد على ترشيحات غيتس أو أوباما، إلى حدّ أننا بتنا نحنّ إلى أيام "بست سِلر" نيويورك تايمز، برغم أنهما وجهان للمزلق ذاته. بالمناسبة من يحدّد الـ"بست سِلر"، بل ما معنى تجهيل المرجعيات العلمية والأدبية والنقدية لصالح اسم هذه الجريدة أو تلك المجلة؟ لم نعد نقرأ رأياً لناقد أو باحث على الغلاف، بل نكتفي بكلمة "رائع"، "مُذهل"، "عميق" التي تقولها الصحيفة أو المجلة، كلُّ الصحيفة والمجلة، من دون تحديد صاحب هذا الرأي الموجز في كلمة أو اثنتين. لعلّ قائلاً يحتجّ بأنّ الساحة تتسع للجميع أكانت ميري بيرد أم غيتس أم ماسك أم نيويورك تايمز، بيد أن الواقع يخالف هذه الرؤية الإنسانية الوردية، فـ "الفضاء" بات مُحتلاً بالمطلق من ذلك الثالوث الذي يسعى إلى إزاحة أدنى مصدر تهديد، ويسارع إلى تمويل البرامج المستقلة أو المشاريع الفردية فوراً كي تتوحّد الكلمة في مستنقعنا العزيز.
طيب، ما مشكلتك مع السرعة عزيزي سنفور غاضب؟ الحقيقة أنّ المشكلة ليست مع السرعة بل مع الضحالة، فالمعرفة تستلزم التعمّق، وهذا لا يتأتّى من الفيديوهات أو البودكاست أو تغريدات "تويتر" حتماً، بل لا بدّ من الكتاب ومن الكتّاب؛ لا بدّ من العودة إلى المصادر التقليدية للمعرفة، وإلى المختصّين، حتى لو فرضت علينا دور النشر -التي تمثّل الصورة المقزّمة لذلك الثالوث- أسماء بعينها. من يتذكر مؤرخاً اسمه ستيفن رنسِمَنْ الذي اختص في الحملات الصليبية مسلَّحاً ببضع عشرة لغة قديمة وحديثة، شرقية وغربية؟ كلّ ما نجده اليوم فلاناً أو فلاناً ممّن يكتبون في تاريخ الحضارات على اختلافها: الصينية والهندية والرافدية والأفريقية والإسلامية والمسيحية، وهم لا يتقنون إلا لغة عرجاء واحدة وباتوا مفكّرين (وكأن توصيف "باحث" لا يملأ العين)؛ أو مثلاً ثمة مترجمون "يكتشفون" اسم مؤلّف فينصّبونه فوراً بوصفه أعظم من كتب على الإطلاق لمجرد أنّهم تسلّقوا سلّم الشهرة الصدئ؛ أو مثلاً الأعزاء الذين باتوا محلّلين استراتيجيّين (وكأن التحليل السياسي محض لعبة أطفال أدنى من مستواهم) وشرعوا يقدّمون لغواً عن كلّ شيء وأي شيء، من إيران إلى أميركا و"إسرائيل" وأوروبا وسورية والخليج.
سنكون واهمين لو ظننّا أنّ هذا الثالوث سيختفي أو يخفت حتى، إذ لا مهرب منه إلا حين ينتهي العالم، كما نعرفه اليوم، وليس لنا إلا التسلّح الفردي بجوهر المعرفة الذي لن يتبدّل حتى لو تغيّر قناعه الخارجيّ. سحقاً للورق وهيّا إلى الكتب الإلكترونية؟ لا مشكلة أبداً، فالورق محض وسيلة، أما الغاية فهو المضمون الذي لا سبيل إلى هضمه إلا بالتعمّق البطيء الواثق، وبتتبّع المرجعيات العلمية المتّفق عليها بين عموم المختصين والقرّاء المتعطّشين إلى المعرفة.
* كاتب ومترجم من سورية