المدفع المائي و"الإرهابيون"

09 أكتوبر 2024
من برلين في الذكرى السنوية الأولى لـ7 أكتوبر (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت مدينة ألمانية تظاهرة صغيرة نظمها شباب أجانب احتجاجًا على العدوان على غزة، حيث واجهوا قمعًا من الشرطة رغم استمرار الحياة الطبيعية للمتسوقين.
- يعكس النص التوترات الثقافية والعرقية في المجتمع الألماني، حيث تعرض الكاتب لتعليقات عنصرية خلال التظاهرة، مما يبرز مشاعر الغضب والإحباط من العنصرية المتفشية.
- يتساءل الكاتب عن دور الإعلام والنظام التعليمي في تشكيل الرأي العام حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، معبّرًا عن استيائه من وصف المتظاهرين بالإرهابيين وتناقض المواقف السياسية الألمانية.

بينما يصيح الشرطي من داخل مركبته في الشباب المتظاهرين أن يُنزلوا لافتاتهم ويُطفئوا الشموع التي أوقدوها حزناً على الأرواح التي تتساقط بالمئات بعد يومين من بدء العدوان على غزة، كان المدفع المائي يقترب ببطء باتجاههم. كان مشهداً كاريكاتورياً لمركبة ضخمة، تتوجه لقمع شباب لو اصطفوا جنباً إلى جنب، سيكوِّنون خطاً أصغر من حجم المركبة، هذا إلى جانب ما لا يقل عن عشر آليات شُرطية، حضرت لإعطاء انطباع بوجود حدث أمني استثنائي.

لم تكن قلّة عدد المتظاهرين بسبب قلّة المكترثين، فلقد تحلَّق حول مكان التجمُّع المعلن عنه عشرات كنت واحداً منهم، نَصَحَنا المنظمون أن نتجنب المشاركة المباشرة لأن التظاهرة قد حُظرت بقرار من شرطة المدينة، خصوصاً إذا كنّا من "الأجانب"، فأولئك الذين أوقدوا الشموع ورفعوا اللافتات كانوا في مهمة "انتحارية"، يوصلون الرسالة ثم يُعتقلون. 

تستعد هذه المركبة المضحكة لإطلاق دفعات من الماء باتجاههم، ونحن نتفرّج من مسافة آمنة، بينما يتسوّق آخرون بشكل اعتيادي، كأن ما يحصُل أمامَنا يُعرض على شاشة ضخمة وسط المدينة ولا يحدث فيها، هنا تمرّ امرأة ألمانية من خلفي وهي تجرُّ دراجتها، وتهمس بحذر: إرهابيون إرهابيون! التفتُّ إليها ونظرت مباشرة في عينيها بكلّ غضبي وحرقتي على مئات الضحايا الذين أعرف أنهم يتساقطون في هذه اللحظة بينما نقف نحن هنا، ولا يجرؤ على الاعتراض على موتهم سوى تلك الثلّة من الشباب، الذين تدعوهم هذه المرأة، التي تدور بدراجتها الهوائية في أجواء خريفية معتدلة في يوم عطلة هادئ: إرهابيين. 

ابتساماتهم العنصرية تتحوّل إلى تعابير من الخوف والارتباك

وأنا أنظر إليها وصديقة لي من خلفي تضرب على ظهري ألا أقول شيئاً، كانت ابتسامتها تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى تعابير من الخوف والارتباك، ملامح أعرفها جيداً، لأشخاص كثيرين كانوا يلقون نكاتاً عنصرية نحونا في الأماكن العامة، وحين كنّا ندافع عن أنفسنا بلغة ألمانية قوية تعلّمناها خلال شهور قليلة، كانت ابتساماتهم الماكرة تتحوّل هكذا بالضبط إلى تعابير من الخوف والارتباك.

بعد هذه الحادثة بأشهر وبعدما عجزت السلطات الألمانية عن منع وقمع المظاهرات المندّدة بالإبادة، كانت امرأتان في سن المرأة نفسها التي رأيتها في فرانكفورت، تسيران في يوم سبت أيضاً، ونحن نخرج من مسيرة ضخمة في وسط العاصمة برلين، تعبران الشارع المفضي إلى "جزيرة المتاحف" في ملابس فاخرة، وهيئة مبالغ في تأنقها، وحين اقتربتا من الشرطة التي تُحاصر المظاهرة تجرَّأتا لتصيحا: "إسرائيل، تحيا إسرائيل"، إلى أن فوجئتا بنّا نمرّ بجانبهما مرتدين الكوفيات، لتضعا وجهيهما في الأرض وتتوقفا عن الهتاف.

هل "دولجيَّة" هذا البلد ضحايا للإعلام الرسمي ولنظام تعليمي يُؤسِّس لأن تكون حماية أمن الاحتلال هي جوهر قيام الدولة الألمانية؟ لكن هل يستطيع الإعلام اليوم أن يُنكر أعداد الضحايا وحجم الدمار؟ ما الحاجة بعد هذه الحقائق إلى أن يستمع الإنسان إلى الإعلامي كيف يحلّلها وإلى السياسي كيف يستفيد منها؟ جوهر الدولة الألمانية؟ بعد كل هذه السنين ومع كل هذه الأكاديميات، ومع كل هذا التطوّر المادي، وكل هؤلاء الفلاسفة والمثقفين، هل يقبل إنسان أن يكون وجود دولته مرتبطاً بالدفاع غير المشروط عن كيان قتل خلال سنة هذا العدد من الناس؟ 

لكنهم "إرهابيون"، هكذا ببساطة تُحلُّ المسألة، ليس فقط أولئك الذين انهار الكون فوق وجودهم النبيل في قطاع غزة، بل وحتى أبناء البلد أنفسهم إن هم خرجوا للتضامن والتنديد بالإبادة، وعكَّروا صفو أيام الإجازة الهانئة، واضطروا (السيدات) للسير خمس دقائق زيادة عن الخط الذي اعتدنه.

إرهابيون أغراب، ليسوا الطلاب الذين يملأون الجامعات ثم يديرون الشركات والمصانع، ويدفعون رواتب تقاعد المسنين، ليعيشوا في عاصمة هادئة رتيبة لا يتغيّر في نظامها شيء، وليقضوا ما تبقى من حياتهم في إجازات لا تنتهي إلى أقاصي الدنيا، يُفاخرون الناس بجامعاتهم الرائدة، وشركاتهم ومصانعهم، ويشتمونهم بتحضُّر إذا لم يكن في "المينيو" طعام يعرفونه، وإذا لم تستطع الأوتيلات أن تلبي حاجات الزائر الأوروبي، سيد العالم وقائده الحضاري. 


* كاتب فلسطيني مقيم في ألمانيا

المساهمون