استمع إلى الملخص
- الهوية الوطنية والذاكرة: تناول المنتدى قضايا الهوية والذاكرة، مثل استخدام السعودية للدرعية كذاكرة مادية، مما يعكس تحديات الحفاظ على التراث وتوازن الأصالة والحداثة.
- التحديات الاجتماعية والديموغرافية: ناقش المنتدى تفريغ الأماكن من سكانها الأصليين ودور العمالة الوافدة، مع تحديات في التخطيط الحضري وغياب الإنسان، مما يخلق مدناً تبدو مؤقتة.
مرّ عقد على إطلاق "منتدى دراسات الخليج والجزيرة العربية" سنوياً في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة، وهذه الدورة الحادية عشرة، التي عُقدت يومَي السبت والأحد الماضيين، خصّصت شطراً من اهتمامها على مسار عنوانه "المدينة الخليجية بنيةً وفاعلاً اجتماعياً".
ولعلّ موافقة مرور عقد منذ كانون الأول/ ديسمبر 2014، مع تحديد عشر دراسات للمدينة الخليجية، يُحيل إلى رغبة القائمين على المنتدى في تقديم قراءة عبر مرجعية العقد الزمني المُتعارف عليها عالمياً، لتكون مساحة تحليل التحوّلات خلال الزمن الماضي، وطرح أسئلة معمّقة حولها وحول الراهن والمستقبل.
تَشارك في الجلسات باحثون من الخليج والوطن العربي ومن الأجانب، وكان جمهور "المركز العربي" يُتابع ملخّصات هذه الدراسات المحكّمة، والنقاشات التي كانت تدور، في الطريق بالطبع إلى أن تصدر جميعها في كتاب خاص بدورة 2024.
وأبسط ما تمكن ملاحظته لدى الوقوف أمام عنوان المدينة الخليجية هو نزوع بحوثها نحو حقلَي العمارة والدراسات الحضرية، بينما التاريخ والسوسيولوجيا والدراسات الثقافية على نحو أقلّ، وتكاد تنعدم في العلوم السياسية، بحسب ما يخلص إليه القائمون على المنتدى.
الطفرة
وهذا ما يمكن توقّعه دائماً في دراسة التحوّلات التي تُطاول منطقة دول مجلس التعاون الخليجي، ومن ذلك البنى الاجتماعية والاقتصادية التي تشكّل المدينة، خصوصاً هذا التشكّل الذي تَرافق مع الطفرة النفطية، وأبعد من ذلك الطفرة العقارية الواسعة بشكل بعيد عن الطبيعي، التي لا تشكّل مُدناً تنمو على مهلها، ما يهدّد معناها ويجعلها مؤسسة "من منظور فوق وطني"، كما يلاحظ أستاذ تخطيط المدن الإيطالي ديفيد بونزيني.
وتذهب دراسته إلى أن أكبر مُدن شبه الجزيرة العربية شهدت نموّاً هائلاً مقترناً بظهور ملحوظ لمشاريعها على الساحة الدولية، وأصبحت هذه المدن في نماذج أشار إليها، مثل أبوظبي ودبي والدوحة وأخيراً الرياض، أرض اختبار لشركات التخطيط والتصميم الدولية لتجربة التقنيات والحلول الجديدة في ظلّ ظروف قاسية.
شكّلت الطفرة العقارية والنفطية مُدناً لا تنمو على مهل
وهذا ما تكثّفه دراسته في القول إنه رغم هذه التجارب الوفيرة، فإن ثمة مساحة محدودة للتعلّم النقدي من الخبرة، ومناقشة ما نجح وما لم ينجح، وتوليد المعرفة التخطيطية القابلة للاستخدام وتبادلها في جميع أنحاء منطقة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
طرحت أوراق أُخرى معالم تعبّر عن الهويات الوطنية أو ما تسمّى السردية، وهي سردية تأسيسية كُبرى تبرز هذه الدولة بحدودها السياسية ما بعد الاستعمار التقليدي، وهي بعد استقرار حدودها ونيل الاعتراف الدولي بها، انخرطت في صياغة الذات الوطنية، أو "البناء القومي" كما في حالات سمّيت هكذا وخصّصت لها جلسة تناولت السعودية وأُخرى تناولت الكويت والإمارات العربية وقطر.
الذاكرة والصدمة
تحت عنوان "الذاكرة والصدمة والهوية السياسية للمدينة.. الدرعية أنموذجاً"، نعرف من الباحثة العنود آل خليفة، الباحثة في "المركز العربي"، أن هناك فرقاً بين ما كان يعبّر عنه "المتحف الوطني السعودي" في سرديته التي تعود بنا إلى جذور الدولة، فإذ بها تحالُف السياسة مع الوهابية، بما يجعل الدين مغذّياً أساسياً للهوية الوطنية.
ولكن منذ 2016، اتّجهت المملكة، كما توضح، نحو تحوّل استراتيجي يجعل من سردية الدرعية الذاكرة المادّية لتاريخ الدولة السعودية الأولى وقد أسّسها، عام 1727، محمد بن سعود، وعاصمتها الدرعية.
وفي حين تتبنى معظم المتاحف في الخليج نهجاً تكاملياً يتشابك فيه التراث والأصالة والحداثة، فإنّ الدرعية، كما تواصل، "تؤكد على نحو فريد استخدام الذاكرة والصدمة لبناء سرد سياسي يتردد صداه مع أجندة الدولة الحديثة.
إذا كانت المدينة كائناً حيّاً، فإنها على مدار التاريخ تنمو وتهرم وتتراجع وتتقدّم من جديد وقد تندثر لعوامل طبيعية أو حربية. غير أن نموذج المدينة في الخليج العربي يكاد يجمع على زاوية النظر إليه كلّ من حضر المنتدى، وخصوصاً ممّن هُم أصحاب الدار الباحثون الذي قدموا من الدول الستّ.
خلل اجتماعي
لنأخذ ملاحظة أولريكه فريتاغ، المؤرّخة الألمانية المختصة في الشرق الأوسط الحديث، فهي ترى مساعي في غير بلد خليجي لتفريغ الأماكن من سكّانها وبناء أماكن تراثية، فهل التراث كما تتساءل سوى كائن حيّ؟ إذ مع الرغبة في معالم تراثية على الطُّرز التقليدية القديمة يجري هدم تراث الثمانينيات، وهذا قد يكشف عن خلل اجتماعي، على حد قولها.
حين يأتي ذكر البناء والهدم، يستحضر الكثيرون، سواء من المحاضرين أو المتدخلين بين الجمهور، الارتباط بالمكان، سواء من أهل البلاد الأصليّين أو المهاجرين للعمل، ويسمّون في دول الخليج "المقيمون".
وتردّدت بأكثر من صيغة الدعوة إلى أن يكون المقيمون ركيزة في قصة المكان، وهُم في كثير من المواضع يشكلون أغلبية السكّان، والتاريخ الحديث الذي ارتسم في هذه المدينة أو تلك هو تاريخ الشراكة التي أنشأت مجتمعات مهاجرة تعيش وتترك أثراً عميقاً، بيد أنه لا يظهر في أي ملمح تعبيري عن هوية المكان، لأن السردية تأتي بأمر من السلطة، كما قال أحد المتدخّلين. نستمع إلى هذه العبارة وهي تفيد في عدة صياغات بأن المواطن والمهاجر كليهما يشعر بأنه يمر بالمكان بوصفه قابلاً للهدم، لكن ثمّة من يقاوم ذلك.
العابرية
وستكون ورقة ياسر الششتاوي، أستاذ الهندسة المعمارية والتخطيط في جامعة كولومبيا، "العابرية والزمانية في مدن الخليج العربية"، الأكثر مباشرة، إذ قال إن ما يشكل هذه العابرية هي الهشاشة وفقر العدالة في التمثيل والبقاء المطمئنّ غير المحكوم بالمؤقّت. بدقّة أشدّ، يتحدّث عن المُدن التي هي دائماً في طور البناء، حتى تشعر بأنها طوال الوقت غير مكتملة، ورغم هذا، فإن ثمّة ما تُمكن تسميته مقاومة تجعل المهاجرين (المقيمين) يُحاولون ترك إشارات إلى وجودهم.
تشوهات في التخطيط وغياب الإنسان عن المشهد
الصورة التي تابعنا استخدامها مرتين على الشاشة هي ذاتها التي عرضها الششتاوي، وفيها تظهر في الخلفية الأبراج الشاهقة وبينها برج خليفة في دبي، أما اللقطة في أرض فارغة صحراوية عن قرب، فهي لعمّال باكستانيين يلعبون الكريكيت، وهذه المقاومة هي التي تشير إلى مجتمعات متجاورة، أحدها يبحث عن شكل حداثي صارخ، والثاني في ضواح لا تصل إليها أعين السيَّاح.
هذه اللقطة هي ما يتكرّر في مدن خليجية أُخرى بذات التقاطعات الأجنبية من عمالة مهاجرة، والعمرانية التي غالباً ترسمها وتضع مقاييسها شركات متعددة الجنسيات، تحوّل التراث إلى "موتيفات" ديكورية، في عقارات لا يسكنها أبناء البلد الأصليون، لأنها غريبة عن ثقافتهم، بينما كانت المنطقة في السابق هي الحارات (الفرجان) التي شكّلت طوال قرون ملاعب أرواحهم من الأجداد حتى الأحفاد، قبل أن يكتب النفط كلمته القاطعة.
رمال متحركة
كلا العُمانيَّين، الباحث في السياسة والعلاقات الدولية علوي المشهور والباحث في التجديد الحضري غسان القلهاتي، نظرا إلى ما سمّياه "مدن على رمال متحرّكة" وأيضاً نظرا إلى تاريخ نشأة المدينة الخليجية الحديثة، وتحوّلاتها، وطابعها المؤقّت من حيث التركيبة الديمغرافية واعتمادها على العمالة الوافدة، وطبيعة تمويل مشاريعها المرتبطة بالعوائد النفطية المؤقّتة، وتحوّلها إلى مدينة عبور تهتمّ بأن تكون مركزاً لوجستياً عالمياً من خلال المطارات والموانئ وتدفّقات الحركة التجارية والسياحية والبشرية.
وبحسب ورقتهما، فإنّ ظاهرة التوسّع الكبير أُفقياً في المدينة الخليجية الحديثة تأثر بالنمط الأميركي في التخطيط الحضري، متناولين عدداً من الحالات في مدن خليجية مختلفة لتبين هذه التشوهات في التخطيط وغياب الإنسان عن المشهد.
ومن أبرز ما سيقت عليه أمثلة بحثية ونقاشية، الطابع العالمي الذي اتخذته المدن الخليجية الرئيسية، حيث تبدو قريبة في بناها المعمارية من مدن عالمية أخرى لا سيما في آسيا، في ماليزيا وسنغافورة على سبيل المثال، لنكون كما يفيد كتيب المنتدى إزاء بعض المدن المشابهة لمدن عالمية والمختلفة عن مدن في المنطقة لا تزال تعيش استمرارية تاريخية أو ثقافية.