في الوقت الذي تنطلق فيه الدعاية السياسية من فكرة "تثبيت المعنى" خلال الحروب والنزاعات المختلفة، بهدف تحقيق السيطرة الواسعة على الرأي العام، يعمل الملصق السياسي، بدوره، على زعزعة الخطابات المهيمنة، ليشرع بتثبيت خطابه المحصّن بجاذبية التعبير البصري التي تتصادى مع وجدانيات الناس، ومع رغباتهم الكامنة في التحرر والانعتاق.
بسبب سهولة انتشاره وشيوعه في الميادين العامة سابقاً، وبعد أن أصبحت الشبكة العنكبوتية فضاءه الأثير راهناً، وبوصفه خطاباً بصرياً يستهدف الفئات الاجتماعية بشرائحها المختلفة، تبوّأ الملصق السياسي دوراً إعلامياً بارزاً، وغدا سلاحاً ثقافياً وتعبيرياً فاعلاً في العديد من الحروب والصراعات السياسية والاجتماعية التي شهدها العالم منذ نحو مئة عام.
في العالم العربي، عزز الملصق السياسي مكانته التوعوية والتحريضية مع انطلاقة الثورة الفلسطينية وانتفاضاتها الجماهيرية، وبدأ بالشيوع والانتشار مع حرب تشرين الأول (أكتوبر)، والمقاومة اللبنانية، ليرسّخ حضوره وفاعليته على أوسع نطاق مع العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة.
المحمولات الجديدة في الصياغة والتقنية والتعبير، التي أشاعها الملصق السياسي في مواكبته للمجازر الإسرائيلية في غزة، لم تكن معزولة عن سياقه الذي اتخذ من القضية الفلسطينية أفقاً تعبيرياً ونضالياً. وهو السياق الذي استطاع من خلاله إيصال رسالته إلى القطاعات الجماهيرية الواسعة في العالم، ونقلها بفعالية إلى شرائح واسعة من الرأي العام الدولي.
وليس أدلّ على ذلك ما كشفه ملصق القضية الفلسطينية عندما استقطب مجموعة كبيرة من الفنانين المعروفين على مستوى العالم، في واحدة من أهم التظاهرات العالمية التي حملها "معرض بغداد الدولي للملصقات" بتنظيم من "المركز الثقافي العراقي" في لندن عام 1979 تحت عنوان "تواقيع تضامن مع فلسطين"، ليفتح جبهة ثقافية نضالية جديدة مكّنت الفنان العربي من الوصول بقضيته إلى شعوب العالم لتشاركه النضال من أجل الحرية والتحرير.
لم يكن ارتباط فناني الملصق العالمين بالقضية الفلسطينية، ارتباطاً ترفياً، أو مجاراة للمزاج المعادي للإمبريالية، بل كان ارتباطاً أخلاقياً وإنسانياً بالدرجة الأولى. وهو ما أكده الناقد الفرنسي راوول جان مولان، حين اعتبر أن الملصق من أجل فلسطين هو "بمثابة إدانة موحدة لسائر أشكال الإمبريالية، ويعرب بالتالي عن التضامن الدولي والتنديد بجرائم الاستعماريين الجدد والفضائح التي يرتكبونها، إضافة إلى عمليات التمييز والسحق وفقدان حق الانتماء إلى هوية وشخصية وطنية".
عودة الملصق السياسي الفلسطيني إلى الواجهة خلال العدوان الأخير على غزة، بعد أن تراجع دوره نتيجة اتفاقية "أوسلو" قبل قرابة عقدين بين "إسرائيل" ومنظمة التحرير الفلسطينية، تشير إلى طبيعة التحولات والتغيرات التي مرّت بها القضية الفلسطينية. خاصة التحولات السياسية والاجتماعية التي استقى منها الملصق السياسي ملامحه الأساسية منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وحتى ما بعد "أوسلو" التي كشفت عن تهافت خطاب السلام.
فجاء شيوع الملصق مع بداية الحرب على غزة، وانتشاره في المساحات العامة، والمسيرات الجماهيرية، وفي فضاءات مواقع التواصل الاجتماعي، بوصفه وسيلة إعلامية ونضالية، مهمتها تعزيز روح المقاومة والصمود، وزعزعة خطاب الاستسلام الذي يرعاه ويروّج له النظام العربي الرسمي. وهو بهذا المعنى يُعدّ سلاحاً إعلامياً وتعبيرياً يندرج ضمن إطار النضال الثقافي للشعوب.
ترتبط عودة الملصق بروحيته الجديدة إلى واجهة الحدث الفلسطيني، بالطور الانتقالي الذي شهده مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، إذ ظلّ قبل ذلك يستعير أدواته وتعبيراته بشكل مباشر من المدارس التشكيلية المعاصرة، ويدور في فلك الأفكار المعلّبة والمنجزة سلفاً. فيما التغييرات الجذرية التي طالته بعد الانتفاضة، على مستوى التعبير والتكوين، جعلت منه جزءاً رئيسياً من الميديا الحديثة، وأصبح منذ ذلك الحين مسرحاً للأفكار الجريئة التي تعاملت مع المرجعيات الثقافية والسياسية والاجتماعية بحسّ نقدي، وانفتحت على مخيلة خصبة في التقاطها لتفاصيل المشهد الفلسطيني.
التداعيات البصرية التي صاغتها ملصقات غزة وهي تتعقب التجليات الرمزية والتعبيرية على أرض الواقع وعبّرت عنها من خلال الخط واللون والكلمة والصورة الضوئية والتقنيات الرقمية، بلغة بصرية تتسم بالاختزال والوضوح؛ ساهمت في الكشف عن بشاعة الجرائم الإسرائيلية، وعزّزت روح المقاومة والتحدي على أوسع نطاق، وقدّمت على نحو غير مسبوق خطاباً بصرياً عابراً للحدود.
ملصقات غزة الطالعة من أتون الحرب، استفادت من معطيات الفن التشكيلي، والفن الفوتوغرافي، والغرافيك، والتقنيات الرقمية المتنوعة، ومن تراكم الخبرة والتجربة، ومن الموروث الفلسطيني بمكوناته البصرية والشفوية وعناصره التاريخية؛ فجعلت من الملصق الذي وسمته بالتفرّد والثراء، علامة راسخة في اختبار الزمن وتقلباته، وانتقلت به إلى مرتبة السيرة الساردة لعلاقة الإنسان الفلسطيني مع ذاكرة المكان وجسده الجريح، منذ النكبة الأولى، وحتى آخر جملة في الدّرس المفتوح على سُبات الضمير وليله الطويل.