تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، 13 آذار / مارس، ذكرى ميلاد المفكّر المغربي مهدي المنجرة (1933 - 2014). هنا خطاب متخيّل منه ينطلق من مفردات فكره.
سأحدّثكم - مرة أخرى - عن المستقبل.
لا يخفى عليكم أن ما حدّثتكم عنه سابقاً بوصفه المستقبل هو حاضركم اليوم. لا يتعلّق الأمر بنبوءة، ولا أحبّذ هذه المفردة، إنما هو توفيرٌ للأدوات التي نحتاجها في سبيل أن نكون قادرين على الضبط النظري للواقع، ولا يشترط الأمر موهبة خارقة أو ما فوق طبيعية. كل ما نحتاجه كي نتبيّن ملامح المستقبل مجموعة من المهارات والمعارف التي يُنشئ مجموعها ندّية مع الإشكاليات التي تواجهنا.
إذا جرّدناه، سيكون المستقبل قائمة من الاختيارات المتعدّدة التي تتشابك متغيّرات كثيرة في إنتاجها. تتيح لنا عُدّة معرفية ملائمة أن نخفّف من تعقيد هذه القائمة، كما تنبّهنا إلى الاحتمالات الأقرب إلى الوقوع. نحتاج أيضاً إلى انتباه مستمر لمسارات الأحداث فما سيكون في المستقبل هو سليل ما نعيشه اليوم، كما نحتاج تسلّحاً قيَميّاً كي لا نسقط في التزييف، وبعض الشجاعة أحياناً حين نرى أمامنا الهاوية منتصبة فنقدر أن نتماسك أمامها ونفكّر بهدوء وثقة. ربما نسيتُ أن أذكر لكم أهمية الحفاظ على بساطة أحلامكم وحيوية خيالكم وأنتم تدخلون مغامرة النظر في المستقبل.
إذن، لا تحتاجون إلى أجهزة مفاهيمية ثقيلة كي تفهموا إلى أين تسير الأمور. هكذا هو علم المستقبليات، لم يكن أبداً جهاز تنبّؤ، إنما هو تدبّر في الاحتمالات ومن ثمّ حسن توظيفها، تماماً كما يفعل اللاعب الماهر بمجموعة الأوراق التي بين يديه.
المستقبليات معطّلة وممنوعة من تقديم أي فائدة لمجتمعاتنا
يسوؤني أن علم المستقبليات لا يزال إلى اليوم مشوّشاً في الأذهان. غريباً في البلاد العربية. لا أهل له. وبعبارة أكثر دقة في التوصيف، هو منبوذ، وبالتالي معطّل وممنوع من تقديم أي فائدة لمجتمعاتنا.
لا يزال التفكير في المستقبل - عربياً - في حدوده الدنيا. أحياناً معدوماً. دوّامة الحاضر تبتلع معظم المواطنين، والنخب تختلق الدوّامات إذا لم تجدها، فلا يبقى إلا قلة القلة للنظر في الأفق. وهؤلاء ليسوا في منأى من سهام المزيِّفين والدجّالين والخاملين.
يسوؤني كل ذلك، كما يسوؤني أن الاهتمام بقراءاتي كثيراً ما ينحصر في التهليل بقدرتها التنبؤية. يقتل هذا النوع من "الاستهلاك" شُحنة أي "نبوءة" ويهدر طاقتها. ما نفعنا بنبوءة لا نحوّلها إلى طاقة فعل؟
منذ عقود، كان المشهد العربي منبسطاً أمامي كخريطة، فتحدّثتُ عن سيناريوهات ثلاثة يمكن أن نسير فيها: أوّلها سيناريو الاستقرار والاستمرار، والذي يعني وجود كل الشروط الموضوعية لبقاء الأمور على ما هي عليه. وبالعين المجرّدة سنعرف أن شرط الاستمرار الوحيد في أي بلد عربي هو استعمال القوة، الصلبة أو الناعمة أو كليهما، وثمن ذلك قتل كل طاقة إبداعية للمجتمعات، وبالتالي خنق كل فرصة في التغيير الطبيعي. من حسن الحظ، أن هذا السيناريو لم يعد ممكناً، فقد باتت الدول واهنة ومترهّلة بحيث لا طاقة لها على فرض الاستمرار إلا بالحد الأدنى، وما يعيد إنتاج هذا الواقع إنما هو خمود الإرادة الجماعية وتشتيتها.
أما السيناريو الثاني فهو سيناريو الإصلاح، ويحتاج إلى قيادات ذكية كي يتجسّد على الأرض. يحتاج إلى أصحاب قرار لهم مقدرة استباق الواقع ومن ثمّ تحريره من إكراهات التعطيل. لستم في حاجة كي أقول لكم بأن هؤلاء غائبون أو مغيّبون وإلا لما كان حالنا كما هو عليه اليوم.
أخيراً، ذكرتُ سيناريو التغيير الجذري، ذلك الذي يأتي حين تتأخّر الإصلاحات ويفقد الناس الأمل فيها، فيدخلون مواجهة يشعرون فيها أنه ليس لديهم ما يخسرونه. كذلك تُقرأ الموجة الأولى من الثورات العربية، منذ عشر سنوات، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، وكذلك تقرأ موجة ثانية كانت مسارحها في لبنان والجزائر والعراق والسودان في 2019.
أنتم إذن في السيناريو الثالث منذ سنوات. لكن من الواضح أن التغيير يبدأ ثمّ لا يبلغ الدرجة المأمولة من الجذرية. هناك في كل مرة شيء ما يعطّل تدفّق الشعوب نحو غاياتها، هناك عوائق تحول دون الذهاب أكثر من بضع خطوات، وهناك أيضاً التفافات وانتهازية وخذلان وتسريب للإحباط. كلها عناصر ينبغي مراعاتها عند مقاربة السيناريو الثالث من زاوية الراهن.
أنتم، إذن، بحاجة إلى مواصلة تعديل النموذج. داخل سيناريو التغيير توجد سيناريوهات كثيرة ينبغي الإمساك بها نظرياً، وإلا بقي العالم من حولكم مفلتاً مثل عرَبة بلا مقوَد.
ليس ما قدّمته لكم بنبوءات كما يقول التعبير الشائع، ولا حتى توقّعات، إنه مجرّد تنظير لمسارات التغيير الممكنة. نموذج فكريّ يساعدنا في السيطرة على الواقع. لمثل هذا اختُرعت النماذج والمناهج والنظريات والخرائط، وقبل ذلك الكلمات والأسماء والأعداد وحتى الحكايات والأساطير. وبدونها لا قدرة للإنسان على مواجهة العالم. خذوا علم المستقبليات من هذه الزاوية الاستعمالية ولا تهدروه في ما لا ينفع.
الهرولة إلى التطبيع هي أحد تجلّيات نظام "الذلقراطية"
تعلمون بلا شك ما يتهدّد منطقتنا من أخطار. يفترض هذا الوضع استعدادات لخوض معارك عدة. لا أقصد احتمالات الغزو والتدخّل الأجنبي وحدها، هناك معارك أكثر ضراوة؛ ضد نضوب الموارد الطبيعية، وضد التضخّم الديمغرافي، وضد الجهل وفقدان المعنى. بأي ترسانة معرفية ستواجهون هذه الأخطار، مع الإشارة إلى أنها تأتي مجتمعة.
ولا تنسوا أيضاً أن بعض الشرور القديمة التي نعتقد أن البشرية قد طوت صفحتها يمكن أن تعود. ربما تذكرون أنني اشتغلتُ على عودة مفهوم الذلّ كمنهج سياسي بعد عقود قليلة من تخلّص بلدان العالم الثالث من الاستعمار. كما بيّنتُ أن مصادر الذل متعدّدة حيث تُنتجه الدول الكبرى لبلوغ أطماعها، وتجعل منه الدول الضحايا مِسطرة لسياساتها الداخلية، وفي المحصّلة يتحوّل إلى ثقافة شعبية فتمارس المجتمعات الذل بشكل ذاتيّ.
ذلك ما سمّيته بنظام "الذّلقراطية"، ووجدت أن أحد أكثر تمظهراته بَجاحَةً سماح الحكومات لنفسها باتخاذ قرارات مضادّة تماماً للإرادة الشعبية، والحديث عن ذلك باعتباره الأمر الطبيعي في إدارة الأمور. وقتها، وجدتُ في مشاركة الدول العربية ضمن العدوان على العراق عام 1990 أكبر مثال على هذه البجاحة الفجة. ولكم أن تروا الأمر ذاته اليوم مع من يهرولون إلى التطبيع مع الصهيونية ضاربين بمشاعر شعوبهم وإرادتها عرض الحائط.
لقد سرّني كثيراً أن موجة الانتفاضات العربية في 2011 قد رفعت من "الكرامة" شعاراً بارزاً. إنه المفهوم النقيض للذل، وهو المفهوم المعياري الذي به تقيسون منجزات انتفاضاتكم. ما دمتم قد توصلتم إليه - من دون إملاءات نخبوية - فأنتم على الطريق الصحيح، ممسكون بالمفتاح - ولو رمزياً - في انتظار أن تُحسنوا استعماله.
ما أجمل أن أرى مفهوم "الكرامة" يتحرّك على الأرض، كل أرض. بات اليوم شعاراً عالمياً يُرفع في أميركا وفي الصين وفي إيران وفي فرنسا وغير ذلك من البلدان. كان الخطر الأشدّ في اعتقادي هو أن تنسى الشعوب أن الإهانة التي تتعرّض لها هي كذلك، وينبغي أن تسمّى باسمها: إهانة.
ظهور مطلب "الكرامة" كشعار كبير في الثورات العربية دليل على أن العرب حين يستشعرون الإهانة يعرّفونها باسمها، يبقى أن يجدوا الطريقة في جعل الكرامة واقعاً ملموساً ينتفعون به، ثم يسيّجوها ليمنعوا اعتداء الطغاة عليها. من الطبيعي أن تأخذ مثل هذه الأمور حيناً من الدهر كي تتبلور، فلا تعطوا آذاناً صاغية لمن يقول لكم إن الثورات أخفقت. تلك أشكال أخرى من الإهانة؛ محاولات استغباء ضئيلة الحُجة.
حيال هؤلاء من مُسمّمي الإرادة الشعبية لا بدّ من تطوير آليات دفاع ذاتي. الأمر شبيه بمسألة تعرّضتُ إليها في كتاباتي، ما سميّته بـ"الحروب السيميائية" حين تحاول قوى - دول أجنبية أو أنظمة محلية - استبدال مفاهيم بأخرى، وتلك هي الخطوة الأولى في عملية طويلة تنتهي بتغيير العقائد والقيم. فإذا جرى استبدال مصطلحات التفريط والتهاون والخيانة بمفردات من قبيل التسوية والسلام والتصالح فاعلموا أن هناك من يريدكم أن تدخلوا في آلة فرم قِيَمية.
ما تملكونه حقاً هو ضمائركم. لا سلطة للحكومات عليها. وإذا كنت البنى التحتية والدفاعية قابلة للتدمير في منظور عسكري فلا سلاح يستطيع أن يدمّر الضمير أو الذاكرة. تذكروا هذه القيم لتستشعروا قوّتهم أمام الخانعين، فأن يكون الإنسان واعياً بقيمة القيم فذلك قيمة في حد ذاته وقوة لو يعقلون.
تذكروا أن المقاومة هي في أحد وجوهها الحفاظ على مثل هذه القيم حتى حين لا تخدمها السياقات. من أشكال المقاومة أن تظل قيمة الحرية أو قيمة العدالة حية في ضمائر الناس حتى زمن الديكتاتورية والظلم. أن تظل قيمة نصرة المظلوم حاضرة في القلب والعقل حتى لو كان الظالم منتصراً.
لقد حوصرت مثل هذه الأفكار حين كنتُ أطرحها في المحاضرات والمؤلفات. كانت هناك أطراف لا تكشف وجهها تمنع الناس من الاحتكاك بكل ما يشحذ هممها. وهذا يعني أن القائمين على المنع مرعوبون من وصول الأفكار للناس. يخشون أن يتعرّفوا على مروحة الممكنات فيتخذوا بعضها طريقاً يعاكس رغبة أصحاب النفوس الصغيرة.
يخشون أن يفهم الناس أن وسائل الحكم الطبيعية هي النجاح في توفير مقوّمات الحياة مثل المدرسة والأمن والخدمات الصحية واللوجستية والعدالة والثقافة. ليس الحكم حقاً لمن يملك آلة قمعية. الفاشلون وحدهم يحكمون بالعصيّ والغاز والفرمانات والتعليمات.
يتمترس هؤلاء خلف المؤسسات والأجهزة والهياكل. كنتُ أحبّ تفكيك هذه البنى وإعادة تركيبها. أحب مقارنة المقاصد التي أنشئت من أجلها ومقارنتها بالأدوار التي تؤدّيها. من ذلك أنني درستُ، في أطروحة الدكتوراه، نموذج مؤسسة "الجامعة العربية" وأثبتُ أن المنظمة التي كان مقصدها تدعيم السيادة العربية ضد الاستعمار أصبحت أداة تطويع للاستعمار في وجوهه الجديدة.
تتحوّل المؤسسات إلى آلات منذ أن تفقد الحبل السري الذي يربطها بمقاصدها. هكذا نظرتُ إلى "الأمم المتحدة" وقد اشتغلت فيها لسنوات. ولقد بيّنتُ للقارئ العربي - لو انتبه - كواليس هذه المؤسسة من منطلق تجربة حية، وأثبتُ أنها أضاعت بوصلتها الأولى بتوفير إطار دولي للسلام العادل وانتقلت إلى مُشرف على "الحروب الحضارية" المتتابعة.
ماذا أعددنا لمثل هذا الواقع؟ هذا السؤال هو ما ينبغي أن يشغلكم. قلة المعرفة أو سوء استخدامها يؤدي إلى تضييع فرص رؤية المستقبل. وهذ عمل جماعيّ تنهض به المجتمعات ومجمل نخبها. مجهود ينطلق من المُعلّم الذي يُدرّس قواعد اللغة ليجد ثمرته صاحب أعلى درجة علمية وهو ينظّر ضمن الفلسفة أو علم النفس أو الرياضيات.
ربما يخذلكم بعض هؤلاء، لكن لا تتركوا أحداً يقول لكم: لا حق لكم في رؤية المستقبل. اعلموا أن ذلك ليس سوى مقدّمة لحديث آخر: لا حق لكم في المستقبل.