المعلومات قليلةٌ حول حياة الفيلسوف سيكتوس إمبريكيوس Sextus Empiricus. لا أرقام دقيقةً حول يوم دخوله ويوم خروجه، ولكنّ الأكيد هو أنّ الطبيب والفيزيائيّ، مَن سُمّيت النزعة التجريبيّة بـ "الإمبريقية" تيمّنًا بكنيته، رحل في مدينة الإسكندرية بمصر. لإمبريكيوس رأي لم يُبطَل تأثيره على الفلسفة حتّى الآن؛ إذْ يشير إلى استحالة بناء قناعة عقلانيّة خالية من أي تلوث. لأنّ أي قناعة عقلانية، مهما بدت متماسكة منطقيًا، إلا أنّها مشوبة على الأقل بواحدةٍ من هذه الشوائب الثلاث: الخط اللانهائي والنقطة والدائرة.
الخط اللانهائي
يستنتجُ العقل القناعات من القناعات، أيْ أنّ الشرط الأساسي لتحوّل حجة (أ) إلى قناعة عقلانية (أ)، هو أن تكون مدعومة ومبررة بشكل كافٍ بقناعات عقلانية (ب). وهذه القناعات العقلانية (ب) التي تقومُ بدور البرهان والإثبات، هي بدورها حجج (ب) أيضًا تحتاج بدورها إلى قناعات عقلانية (ج) تثبتها وتبرهنها، وهكذا إلى ما لا نهاية.
بمعنى إذا كنت من مدافعي العدالة الاجتماعيّة، عليك أن تقدم حججًا، من الممكن أن تكون مثلاً لأنّك أيضًا مدافع عن حقوق الإنسان، وهي أيضًا قناعة بحاجة إلى حجة، وهكذا إلى ما لا نهاية، في خطٍ مستقيم يرجع أبديًا إلى الخلف Infiniter Regress.
النقطة
ولكنْ إذا قرّر المرء التوقف عند نقطةٍ ما في هذه السلسلة اللانهائيَّة، كي ينقذ نفسه من التراجع ويتقدَّم خطوة إلى الأمام، فإن عليه أن يقف بالتالي في موضعٍ ما من هذه السلسلة اللانهائيّة. أي يكبح الفرامل عند قناعةٍ لا تبرير عقلانياً لها، القناعة الوحيدة التي تُبّرِّر ولا تُبرَّر، والتي تسمَّى بـ "الدوغما" Dogma. الدوغما هي العنصر غير العقلاني الوحيد في العالم الفلسفي، هي النقطة التي يقرّر فيها عقلٌ ما، بأن لا شيء قبلها، وكلّ شيء يأتي بعدها.
الإثبات اللانهائي للقناعات يُظهر استحالة التفكير العقلاني
ورغم أنّ كلمة "دوغمائي" شتيمة في السياسة، إلا أنَّ بعض الفلاسفة يكشفون العناصر الدوغمائيّة الأولية في كتبهم بشكل صريح. جون رولز يقول علنًا في "العدالة كإنصاف" بأنّ افتراضه ميل الإنسان إلى الحرية هو من العناصر الدوغمائيّة في فلسفته، وتوماس هوبز يفترضُ بشكل أوّلي بأنّ هنالك ميلاً في الإنسان إلى الشرّ.
الدائرة
وأمّا التقدم، فيكون أحيانًا دورانًا في نفس المكان. فإذا قال أحدهم: "كلّ الكلام في كتابٍ ما صحيح، لأنَّ الكلام الموجود في الكتاب من المستحيل أن يكون غير صحيح"، فإنَّ هذه القناعة ليست مبرّرة عقلانية من قناعةٍ أُخرى منفصلة، بل هي مستخلصة من نفسها، هي القناعة الدائريّة Zirkel التي تتطابق مع نفسها، لأنَّ بدايتها هي نهايتها. الشوائب الثلاث: النقطة والخط اللانهائي والدائرة، التكثُّف على شكل "دوغما" أو الإثبات اللانهائي للقناعات أو دوران القناعة حول نفسها، تُظهر استحالة التفكير العقلاني.
كل رأي فاسد.