استمع إلى الملخص
- يوضح بيجيم نمطين للمعرفة: "معرفة العقل الخوارزمي" التي تسيطر على حياتنا وتفقد الإنسانية إنسانيتها، و"معرفة العقل الكلي" التي تسعى لعالم إنساني مليء بالحياة.
- الحل المقترح هو "الزهد المعرفي"، حيث يدعو بيجيم إلى التأمل والخيال كبدائل للرأسمالية التقنية، مشيراً إلى أهمية الاستماع للطبيعة بطرق مختلفة.
في كتابه "الوعي أو الانهيار"، الصادر حديثاً عن دار "فراغمينا" الإسبانية، يُقدّم المفكّر الكتلاني جوردي بيجيم Jordi Pigem نصّاً فلسفياً موجزاً يُلخّص فيه معنى المعرفة - الوعي في عالم يتطوّر بوتيرة متسارعة، بحيث لا نعرف فيه إلى أين نمضي. في هذا العالَم يحجب السراب الرقمي و"البروباغندا" رؤية الإنسان للواقع الملموس والمباشر، ويخلق واقعاً افتراضياً مليئاً بالمعلومات والبيانات، بحيث نبدو وكأنّنا نعيش تحت تأثير السحر.
يُوضّح بيجيم (1964) أنّ ثمّة نمطين رئيسيّين للمعرفة في العقل البشري: "نمط معرفة العقل الخوارزمي"؛ وهو الذي يقودنا إلى عالَم يترسّخ فيه شيء وحيدٌ لا غير: السيطرة على كلّ شيء. وتبعاً لنمط المعرفة هذا، تتجرّد الإنسانية من إنسانيّتها، تسود الآلة والرأسمالية التقنية، وتُصبح الحياة معدناً يُستهلك. ولكن، مع ذلك، لا إمكانية للسيطرة على شيء في هذا السراب الرقمي. النمط الآخر هو "معرفة العقل الكلّي، وهي معرفة، كما يوضّح، تقود إلى شيء من السيطرة، ذلك أنّها تسعى، جوهرياً، من بين العديد من الأشياء، إلى عالَم إنساني في المقام الأول، مليء بالحياة.
الأكثر حريّة وإبداعاً هُم من لا يعرفون كلّ شيء ولا يريدون معرفته
بعد توضيحه نمطَي المعرفة، يستطرد المؤلّف المختصّ بفلسفة العلم في الحديث عنهما في العصر الذي نعيشه، حيث يرى أنّهما يتطابقان تطابقاً مذهلاً في حياتنا اليومية، وعادةً ما يتغلّب "نمط العقل الخوارزمي". وكي يؤكّد وجهة نظره، يلجأ إلى علم الأعصاب والعلوم المختلفة من الطب النفسي وصولاً إلى الفلسفة الألمانية والفلسفات الآسيوية، وما بينها من الفيزياء النظرية وتاريخ الأدب، كي يُثبت أنّ العالم صار مُختزلاً، وأنّ الرأسمالية التقنية استطاعت أن تختزل الطبيعة نفسها. حتّى البشر أنفسهم صاروا مجرّد بيانات وخوارزميات. وهذا كلّه من جهة العقل الخوارزمي الذي يقطعنا ويعزلنا عن التأمّل وعن الخيال، ويعلّقنا بما يسمّيه بيجيم "القمامة المعرفية".
في هذه "القمامة المعرفية" يوجد كلُّ شيء. المعلومات كلّها متوفّرة. هنا يجب أن تبدأ الثورة على المعرفة. يوضّح المفكّر أنّه ليس ثمّة من داعٍ لمعرفة كلّ الأشياء. فهذا يجعل الحياة أصعب، معرفة كلّ شيء قد يكون عائقاً أمام الحياة نفسها، وأمام الإنسان. كذلك الأمر مع تذكّر الأشياء كلّها. حين تكون المعرفة زائدة عن حدّها، تصبح عائقاً وقيداً؛ فالمعرفة تحتلّ مكاناً. وهذا يعني أنّها طاقة إضافية. لذلك ثمّة أشياء يُفضَّل عدم معرفتها. فما فائدة أن نعرف، مثلاً، حالة الطقس في لاتفيا إن لم نكن نعيش هناك؟
هذه "القمامة المعرفية" التي تملأ الحياة الإنسانية هي نتاج الرأسمالية التكنولوجية، وهي كما تَعلّمنا مع والتر بنيامين، الدين الجديد الذي يستجيب لمخاوف وعذاب وهواجس وآلام الديانات التقليدية نفسها. ولكن ثمّة معادلة جديدة في قلب هذا الدين الجديد: أن تكون مديوناً أو أن تشعر دائماً بالذنب. إنّه هوس السيطرة الذي لا يُنتج إلّا الكوارث.
ولكن ما الحل أمام هذا كلّه؟ وهل نحن في حاجة ماسّة إلى ما يمكن أن نسمّيه زهداً معرفياً؟ حاجة إلى عدم المعرفة؟ يغامر المفكّر الكتلاني بالإجابة عن هذه الأسئلة، حيث يعتبر أنّ البشر الأكثر حريّة وإبداعاً هم أولئك الذين لا يواكبون المعلومات كلّها، لا يعرفون الأشياء كلّها ولا يريدون أن يعرفوها. هذا هو الحل: عدم معرفة كلّ شيء، والعثور على بدائل مختلفة. فالطبيعة تتحدّث معنا بلغاتٍ مختلفة، لغات لا تُعدّ ولا تحصى. يمكننا أن نسمع الطبيعة رياضياً، ويمكننا أن نسمعها فلسفياً وشعرياً أيضاً. إنّه التأمل والخيال. إنّه سماع غوته وموتسارات ومالارميه ورامبو ولوركا وهمبولت ومينكوفسكي وماكغيلكريست. وهي طرق أُخرى للتقرّب من الطبيعة والابتعاد عن الرأسمالية المسيطرة.
من إصدارات جوردي بيجيم الأُخرى: أوديسا الغرب" (1994)، و"الملائكة أو الروبوتات" (2018)، و"التقنية والشمولية" (2023).