ما الذي نعرفه عن محاكمة سقراط وموته؟ على هذا السؤال، غالباً ما تحضر محاورة أفلاطون، "دفاعُ سقراط" (أو "محاكمة سقراط" في ترجمات أُخرى)، بوصفها المرجع الأبرز، وربما الوحيد. أمّا في المخيال، وخصوصاً الغربي، فتحضر أيضاً صورة سقراط كما رسمها التشكيلي الفرنسي جاك لوي دافيد في لوحتها الشهيرة، عام 1787.
لكنّ هذين المرجعين، على أهمّيتهما، قد لا يقولان كلّ شيء عن محاكمة الفيلسوف الإغريقي ومقتله، بعد تجرّعه السمّ، عام 399 قبل الميلاد. هذا ما يخبرنا إيّاه المؤرّخ الفرنسي باتريك بوشرون في حلقة جديدة من سلسلته الوثائقية "عندما يصنع التاريخُ تواريخَه"، والتي خصّصها لمحاكمة "الفيلسوف الأوّل"، وبثّتها حديثاً قناة "آرتيه" الثقافية الفرنسية الألمانية.
وبما أن الحادثة تبدو مقطوعةً من شجرة بالنسبة إلينا كغير مختصّين، فإن بوشرون (1965) يعمل على منحها العمق التاريخي الذي تفتقده في مخيالنا ــ وهي، بالمناسبة، المهمّة التي يتصدّى لها برنامجه الوثائقي هذا، والساعي إلى تقديم مجموعة من أبرز الأحداث التاريخية إلى غير المختصّين، من دون أن يعني هذا التبسيط تساهُلاً أو اختزالاً للوقائع.
وهذا ما يقف عليه المشاهد منذ بداية الشريط وحتى نهايته، إنْ كان في ما يخصّ الاطّلاع على السياق الاجتماعي والسياسي الذي جاءت فيه المُحاكمة، أو في ما يخصّ الأبحاث التاريخية والعِلمية والحفريات التي تتقصّد معرفة المزيد حولها. هكذا، سيذكّرنا صاحب كتاب "ما يمكن للتاريخ فعْلُه" بأن سقراط فتح عينيه على العالَم، عام 470 قبل الميلاد، في مدينة (أثينا) تعيش منذ أربعين عاماً تقريباً في نظام ديمقراطي، وبأنه كان في العشرين من العمر عندما بدأت أشغال توسيع الأكروبول، وفي الأربعين عند اندلاع الحرب البيلوبونيسية (بين أثينا وإسبرطة)، قبل أن يتحوّل إلى واحد من أكثر شخصيات المدينة شهرةً في فترة سجنه ومحاكمته، وهو في السبعين من العمر.
يقول بوشرون إن الدفاع عن سقراط هو السبب الأول لوجود المحاورات الأفلاطونية
وإذا كان أفلاطون قد عاد إلى مقتل معلّمه بعد سنوات عديدة من رحيل الأخير، فإن عملاً غريباً من نوعه، هو مسرحية "السُّحُب" لـ أريستوفان، سيقدّم ما يشبه النبوءة في ما يخصّ الطريقة التي سيقضي بها سقراط. ذلك أن هذا العمل، الذي يستعيده بوشرون، كان قد قُدّم على أحد مسارح أثينا عام 423 قبل الميلاد، أي بنحو ربع قرن قبل مقتل سقراط، الذي يقضي في المسرحية، مع تلامذته، خلال حريق في الساحة التي كانوا يجتمعون فيها للتفلسف والنقاش. وما يزال المؤرّخون يختلفون، حتى اليوم، في معرفة ما إذا كانت هذه المسرحية قد فتحت الباب على مُحاكمة الفيلسوف وقتله، عبر تمثيل الأمر عيانياً أمام الجمهور الأثيني، وعبر تقديم سقراط بوصفه عدوّاً للديمقراطية.
صفةٌ سترافق الفيلسوف طويلاً بعد رحيله، كما تشهد على ذلك مقتطفات ونصوص إغريقية عديدة، أكملُها كتاب "اتهامُ سقراط" لـ بوليقراط، الذي يصف معلّم أفلاطون بأنه "عدوّ للشعب الأثيني"، مبرّراً مقتله. في المقابل، سيعمل أكثر تلامذة سقراط وفاءً، وفي مقدّمتهم أفلاطون، على إدانة ما جرى لمعلّمهم وتخليد ذكراه.
وهنا يقدّم بوشرون واحدةً من أبرز أطروحاته في هذا الشريط: أن المحاورات الأفلاطونية جاءت، في المقام الأوّل، كدفاع عن سقراط. دفاعٌ سيغيب قروناً، قبل أن يعود إلى الأضواء، وبكثافة، بدءاً من القرن السابع عشر، وأكثر منه الثامن عشر، اللذين سيشهدان كثيراً من التصاوير المسرحية واللوحات التشكيلية التي تستعيد الفيلسوف المسموم بوصفه صوتاً للدفاع عن العدل والحقّ، تماماً كما صوّره جاك لوي دافيد في لوحته الشهيرة.