تكتسب دراسة الأسير والكاتب الفلسطيني باسم خندقجي (1983) المُعنونة بـ"الإبادة الفردية في فلسطين المستعمَرة"، والصادرة ضمن العدد الأخير من مجلّة "الدراسات الفلسطينية" (136 خريف، 2023)، أهمّية خاصة، أقلّها أنها رأت النور قبل العدوان على غزة بأسابيع، وتناولت مفهوماً مركزياً في هذا النمط العسكري/ التطهيري، وهو الإبادة. فضلاً عن كونها تندرج ضمن "دراسات السجن"، بما فيها من سعي إنساني للتحرّر لا من قيود المكان فحسب، بل والمعرفة الزائفة أيضاً.
وإن كان خندقجي يبحث أو ينطلق من الوجه الفردي للإبادة، في حين أن ما نُعاينه، اليوم، هو وجه جماعي أعمّ، لكنّهما، في حقيقة الأمر، ليسا إلّا وجهين مُتلازمين. بل إن الإبادة الفردية، بسماتها التحديدية: كالتقسيم الثنائي بين المُستعمِر والمُستعمَر، والمراقبة المَسحية والرأسية الشاملة، والابتعاد النفسي بين الضحية والجلّاد، وتطبيع القتل، وتضخيم خطر وعدائية الآخَر المُستعمَر، هي جزءٌ ينضاف إلى كلّيانية الإبادة الجماعة.
يقرأ الكاتب تطبيع القتل الاستعماري الذي بات حاضراً بصورة شبه يومية في الزمان والمكان الفلسطينيّين المُستعمَرين، بما يجعل الإبادة جماعية مُقنّعة بالإبادة الفردية. وهذا لا تُمارسه دولة أو حكومة احتلال، بل منظومة شاملة مكوّنة من الكولونيالية والاستيطان والأبارتهايد.
تفكيك الاحتكار الصهيوني لمفهوم الإبادة الجماعية
تُضيء الدراسة تاريخية ظهور مصطلح الإبادة الجماعية، والخلفية النفسية التي يتحرّك وفقها. فالمصطلح (Genocide) أول ما ظهر عشية الحرب العالمية الأولى، حيث شهدت البشرية التجلّيات الأولى لـ"عقلنة القتل"، وأمارات هذه "العقلنة" هي التي أسّست وأدارت معسكرات تجميع "الشاذين" عن مقاييس الحداثة والعِرق بطابعهما النازي في الحرب العالمية الثانية. وأول من دشّن هذا المصطلح، كما يُنبّه خندقجي، هو اليهودي البولندي رفائيل لمكين (1901 - 1959)، في سياق الحرب العالمية الثانية. فـ"أصبح الأب الروحي لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن الإبادة الجماعية"، والتي أُقرّت في كانون الأول/ ديسمبر عام 1948.
لكنّ تمثيلات هذه الاتفاقية ظلّت منوطة بتاريخ ومركزية أوروبية، وفي هذا السياق، تم الإفراط باستخدام "الهولوكوست" كتمثيل عن هذا المُصطلح، في حين لم يتم ذِكر اسم فلسطين ونكبة شعبها، في المداولات الأوّلية لصوغ الاتفاقية، سوى خمس مرّات من دُول عربية مثل مصر وسورية. أمام هذه الوضعية يتساءل صاحب "قناع بلون السماء" (2023): إذا كنّا لا نستطيع التنافس على إلحاق نكبة 1948 بخطاب الإبادة الجماعية المتوافَق عليه، والذي تسوده روح الهولوكوست، فلماذا لا نسعى لبلورة مقاييس ومُحدّدات خاصة بتطهير وتهجير وإبادة مئات الألوف من الفلسطينيين، إبان نكبة 1948؟
هنا يلفت خندقجي إلى مصطلحات أُخرى، سبق أن اشتُغل عليها، مثل "البوليتيسايد" (الإبادة الجماعية على خلفية سياسية)، و"السوسيوسايد" الذي يُشير إلى تدمير جميع المقومات الجماعية للجماعة، مثل القرى والمدن والبيوت والبنى التحتية والاقتصاد والثقافة. قبل أن يُفنّد ضعف الأبعاد النفسية والأخلاقية لهذه الاتفاقية، الأمر الذي يجعلها تبدو وكأنها مُعدّة لمعالجة نتائج الإبادة الجماعية، ولا تبحث في دوافعها ومسبّباتها.
ويعود خندقجي إلى الباحثة كريستين مونرو، ليضع اليد على خطوات ارتكاب الإبادة الجماعية؛ الخطوة الأولى على المستوى السيكولوجي، "نوع من الأيديولوجية التي تعمل على إسباغ الشرعية وتبرير الذبح الذي سيقع. وكثيراً ما يأخذ هذا التبرير شكلاً 'عِلمياً' مريباً... لذا تُصبح الإبادة الجماعية 'إجراءً' علمياً واقياً من العدوى التي يأتي بها وسطاء 'التلوُّث العنصري'". والثانية، خطوة المستوى الإدراكي و"تتمثل في نقلة بإدراكنا، (أو رؤيتنا) لأنفسنا مقارنة بالآخرين". والثالثة أننا قد "ننظر إلى أنفسنا كأننا نتصرّف بوحي من عاطفة مقلوبة فنرى أنفسنا مخلوقات أخلاقية تتصرّف بوازع من ضمير، تسعى لتخليص الآخر من بؤسه".
ويرى خندقجي في مقاربة مونرو أنها تُفسح المجال في بعض مستوياتها وخطواتها أمام تشييد مفهوم أنموذج الإبادة الفردية في فلسطين المستعمَرة وتطويره، بعد تثبيت وتعيين السياق الكولونيالي لتجلّيات الإبادة الجماعية التي نفّذتها وتنفّذها منظومة الأبارتهايد الكولونيالي الصهيوني في حقّ الفلسطينيّين والفلسطينيات.
ينتقل الأسير الفلسطيني بعد ذلك إلى عرض "كينونة الإبادة الكولونيالية المُقنّعة"، وهو الجزء الذي يستغرق القسم الأكبر من الدراسة. حيث يعتمد على رؤية إيلان بابيه في "التطهير العرقي في فلسطين"، والذي قرأ الصهيونية كمزيج بين "الأيديولوجيا القومية والممارسة الاستعمارية". وهذه الممارسة الاستعمارية "لم تنتهِ بانتهاء اللحظة المؤسسة للنكبة، ذلك بأن القومية التي تسعى الصهيونية لبلورتها لم تتحدَّد ملامحها النهائية بعد، وخصوصاً ملامح المكان 'أرض إسرائيل'". لكن هذه الحالة الاستعمارية، تختلف عن النمطين الفرنسي والبريطاني (لم تنطلق من الدولة الأم إلى المستعمرات)، بالتالي هي نسخة هجينة ومشوّهة مكوّنة من ثلاثة أنماط: الكولونيالية والاستيطان والأبارتهايد.
تسعى "دراسات السجن" إلى التحرر من قيود المكان والمعرفة
ضمن هذا الإطار، يخلص خندقجي، إلى أن التقاء الصهيونية بطابعها الناشىء في أجواء الحداثة المركزية الأوروبية مع الكولونيالية الهجينية، "أحال الحركة الصهيونية إلى كينونة كولونيالية نكبوية ضارية لا تفتأ تولّد تداعيات مشوّهة، منذ طرد سكان قرية زمّارين عام 1882 في سبيل إقامة قرية زراعية يهودية صهيونية في سهل مرج ابن عامر، حتى محاولات الحكومة الصهيونية الكولونيالية الحالية الرامية إلى طرد وتهجير سكان قرية الخان الأحمر. كما أن سياسات واستراتيجيات القتل المُمنهج لم تختلف كثيراً سوى في تقنياتها منذ مجزرة دير ياسين في نيسان/ إبريل 1948، حتى مجزرة قصف البيوت الآمنة في غزة بأحدث الصواريخ الحربية الأميركية الصنع في أيار/ مايو الماضي".
تُركّز الدراسة على الواقع الراهن، فنرى الكاتب ينظر في الإحصاءات التي تُثبت أن أجهزة الأمن الصهيونية قتلت منذ بداية هذا العام (حتى كتابة الدراسة) 159 فلسطينياً، بينهم 27 طفلاً وستّ نساء. ولو قُرِئ هذا العدد ضمن معطيات اتفاقية الإبادة الجماعية سيظهر وكأنه "ضحايا أعمال قتالية وعدائية مُتبادلة ما بين طرفَي الصراع". وبالتالي فإن المصطلح الأنسب، والأكثر ملاءمة لعمليات القتل الممنهجة واليومية هذه والتي ترتكبها أجهزة الأمن الصهيونية، أو وحدات المستعربين، هي الإبادة الفردية ("البيرسونوسايد")، والتي تُشكّل القوام الأساس للإبادة الجماعية التي تمارسها "إسرائيل" في حروبها.
وبهذا يُمكن تفسير مفردة "الدفاع" في عبارة "جيش الدفاع الإسرائيلي"، بأنه ليس سوى هجوم بأعتى الترسانات "الذكية" التي لا تتورّع عن تدمير برج سكني كامل في غزة، بأحد الصواريخ "الذكية"، دون أن تُقيم للنساء والأطفال أيّ اعتبار. في الجزء الأخير من الدراسة يقرأ خندقجي في مُحدّدات الإبادة الفردية: "التقسيم الثنائي"، و"المراقبة المَسحية الشاملة"، و"الابتعاد النفسي"، و"تطبيع القتل"، وينظر في تموضعات الجسد الفلسطيني المُقاوم، وحدود المواجهة المفتوحة مع الآلة العسكرية. التمعّن في هذه المُحدّدات يجعلنا ننطلق منها إلى العام والملموس، أن نعتبرها "عتبة جزيئية"، إن جاز التعبير، لمشهد الإبادة الجماعية القائمة في غزة، الآن، بعد الطوفان.
بطاقة
وقّع الأسير الفلسطيني (مواليد 1983) دراسته الأخيرة من "سجن نفحة" في صحراء النقب، حيث يقضي ثلاثة أحكام مؤبّدة منذ نهاية 2004. إلى جانب كتاباته البحثية، صدرت له روايات أربع، هي: "قناع بلون السماء" (2023)، و"مسك الكفاية: سيرة سيّدة الظلال الحرة" (2014)، و"نرجس العزلة" (2017)، و"خسوف بدر الدين" (2018)، ومجموعتان شعريتان: "أنفاس قصيدة ليلية" (2013) و"طقوس المرّة الأُولى" (2019)، .