من أعمق جروح الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990) التي ما زالت مفتوحةً إلى اليوم، قضيةُ المُغيَّبِين والمُختفِين قسريّاً. فعلى الرغم من مرور ما يزيد عن ثلاثين عاماً على إعلان انتهاء الحرب، إلّا أنّ هذا الملف لم يُغلَق بعد، ففيه قُيّدت عشرات آلاف الأسماء، لا للبنانيّين فحسب، بل لسوريّين وفلسطينيّين أيضاً.
"بحر وتراب" عنوان الوثائقيّ الذي أُنتجَ هذا العام، ويُعرَض عند السابعة من مساء الإثنين المُقبل في "مركز بيروت للفنّ"، وذلك بحضور كلٍّ من مُخرج العمل، الإيطالي دانييلّه روغو، والباحثة كارمن أبو جودة، إلى جانب الروائي اللّبناني إلياس خوري، الذي كتب نصّاً افتتاحياً للفيلم بعنوان "البحر الأبيض".
يستكشف الشريط (72 دقيقة) الرابطَ بين قضيّة المفقودين، ومئة مقبرة جماعية مُنتشرة في أماكن مختلفة من لبنان. ويُعدّ من الأعمال الفنّية القليلة التي تتناول هذا الملفّ، حيث يُضيء العنفَ المخفيَّ تحت حديقةٍ ومدرسة وفُندق وفي مقبرة في عمق البحر، وغيرها من الأماكن التي تبدو عادِيّة. هذا ويبني العملُ سرديّته من خلال إفاداتٍ لشُهود عيَان، وعائلاتِ المفقودين والمُعتقَلين السابقين والنّاجين.
وكان عام 2020 قد شهد تأسيس "اللجنة الوطنية لأهالي المفقودين"، والتي اعتُبرت خطوة أُولى باتّجاه تحقيق العدالة، رغم ما تعرّضت له مطالبُها من عرقلات مديدة. ومن هُنا يستحضر "بحر وتراب" أصوات القائمين على هذه اللجنة أيضاً، في محاولة لمتابعة القضية بمجراها الحقوقيّ والنِّضالي.
يضيء الشريط على أماكن المقابر الجماعية، حيثُ يجعلُها المُخرج في مركز اشتغال عدَسته. أمّا الضيوف الذين يقابلهم، فلا نرى وُجوههم، بل نختبر تجربتهم ومعاناتهم من خلال سماع أصواتهم فقط. ويُعلّل القائمون على العمل لجوءَهم إلى هذه التقنية، بكونها تُعطي تمثيلاً قويّاً عن مفهوم الاختفاء.
وبناءً على هذا التباين المقصود في الصورة التي تُوحي بأنّ الحياة، اليوم، طبيعية ومستمرّة بشكل عاديٍّ فوق تلك المقابر، تأتي شهادات الأهالي وأصواتهم كفعل احتجاجٍ يخرق ذلك الإيقاع الروتيني.
الجدير بالذِّكر أنّ دانييلّه روغو مؤلِّف وصانع أفلام، ويعمل مُحاضراً في "جامعة برونيل" بلندن، له مجموعة وثائقيات، منها: "الجانب الأولمبي من لندن" (2012)؛ و"عن الحرب" (2019).