بعد الاحتفاء، عام 2021 بالمئوية الثانية لميلاد فلوبير (1821 ــ 1880)، وعام 2022 بمرور قرن على رحيل مارسيل بروست (1871 ــ 2022)، تشهد فرنسا، منذ مطلع العام الحالي، العديد من الفعاليات والأنشطة الثقافية والفكرية والعلمية، ومن الإصدارات الجديدة، التي تأتي في سياق احتفاء البلاد بمناسبة المئوية الرابعة لميلاد مؤلّف لا يقلّ أهمّية، في الثقافة الفرنسية، عن فلوبير وبروست: بليز باسكال.
ويُعَدّ باسكال، الذي لم يعش إلّا 39 عاماً (1623 ــ 1662)، من أبرز العقول التي تركت بصمتها في تاريخ الفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضيات، إضافة إلى أعمال في اللاهوت المسيحي. وإذا أردنا الحديث فقط عن إضافته إلى الرياضيات، أمكننا ذكْرُ بعض الحلول والكشوفات التي ارتبطت باسمه في الحساب والهندسة، مثل مبرهنة باسكال، ومثلّث باسكال (الذي عمل عليه أيضاً، قبل باسكال بقرون، عمر الخيّام)، إلى جانب إضافته المهمّة في الهندسة الإسقاطية، ونظرية القيمة المتوقّعة، فضلاً عن ابتكاره أوّل آلة حاسبة في التاريخ، حملت في الفرنسية اسم "باسكالين".
أمّا في الفكر، فتجتمع الإضافات التي جاء بها الفيلسوف الفرنسي في كتابيه "خواطر" (أو "أفكار") و"الرسائل الإقليمية"، ويُعَدّ أوّل هذين الكتابين من أبرز الأعمال الفلسفية التي وُضعت في فرنسا قبل فترة الحداثة، والتي تركت أثراً على ما تلاها من نقاشات، ولا سيما في الأخلاق، حيث لا يزال هذا الكتاب يُدَرَّس حتى اليوم في المناهج التعليمية الفرنسية.
ومنذ الأيام والأسابيع الأولى من هذا العام، انضمّت إلى المكتبة الفرنسية مجموعةٌ من الأعمال التي تستعيد العالِم والمفكّر في الذكرى المئوية الرابعة لميلاده، مثل السيرة التي وضعها برنار غراسيه ("في اقتفاء أثر بليز باسكال: سفر في اللانهائيّ")، و"باسكال أو المقترح المسيحي" لـ بيير مانيه، إلى جانب إعادة طبع لأعمال ونشر لنصوص ومسوّدات للفيلسوف لم تُنشر من قبل، أو أنها نُشرت ولم تحظ بما يكفي من القراءة والمراجعة.
من جهتها، خصّصت مجلة "فلسفة" الشهرية، التي تصدر في باريس، ملفّاً في عددها الأخير (شباط/ فبراير) توقّف المشاركون فيه على عدد من المحاور، وأبرزها تأثُّر فلسفته بمعرفته الرياضية، وتطبيقه لعدد من مفاهيمه واكتشافاته على أفكار، مثل تحليله للانهائيّ انطلاقاً من لانهائية الحساب، أو مثل تنظيره للعرضية بالتوازي مع أفكار ــ التي جلبتْ له هُزءَ أقرانه حينها ــ حول رياضيات الصدفة.
وتشمل الاحتفاءات به إقامة العديد من الندوات واللقاءات الفكرية، في مكتبات وجامعات فرنسية، إلى جانب مناقشة وتقديم لأفكاره عبر وسائل الإعلام الثقافية، أو حتى استلهام أعمال موسيقية من أعماله ومن الزمن الذي عاش فيه، كما فعلت عازفة كمان الساق سالوميه غاسلان في حفل أقامته أخيراً في مدينة كليرمون فيران، مسقط رأس الفيلسوف. وتمتدّ بعض الفعاليات حتى خارج فرنسا، على غرار الندوة التي يلقيها حوله، في مدينة ميلانو، في الثالث عشر من آذار/ مارس المقبل، المفكّر الفرنسي جان لوك ماريون.