بنت الشاطئ.. الأسلوب القرآني مدخلاً للتفسير

02 مايو 2022
بنت الشاطئ في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

رغْم موجاتِ الإعجاب التي أثارها التفسير العلميّ الحديث للقرآن فإنّه لم يُقنعْ الباحثة المصريّة عائشة عبد الرحمن، المعروفة بلقب بنتِ الشّاطئ (1913 - 1998)، والتي تَخصّصت في تحقيق كُتب التراث بعد أن تَشبّعت بدروس التفسير والبلاغة منذ صباها. فقد كان المشهد التفسيريّ، في ستّينيات القرن الماضي، مُوزّعاً بين التوظيف السياسيّ الذي مَثّله "في ظلال القرآن" لـ سيّد قُطب (1906 - 1966)، والإعجاز العلميّ الذي تبنّاه مصطفى محمود (1921 - 2009) وأجادَ عرضه في كُتبهِ وبَرامجه التلفزيّة، حتى صار كلّ واحدٍ منهما يترك الآية جانباً ويركض بعيداً في عرض النّظريات الجيولوجيّة والسياسية.

ولذلك، أكبّت بنت الشاطئ، بدعم من زَوجها أمين الخوليّ (1895 - 1966)، على إظهار السّمات الأدبيّة والبيانيّة لـ النصّ القرآني باعتبارها - وهذا ما أجمع عليه القدماء - مظهرَ الإعجاز الأهمّ وعماد التحدّي الذي أعجزَ العربَ أن يأتوا بمثله. وقد جاء كتابُها "التفسير البياني للقرآن" في جزأيْن، صدر الأوّل منهما سنة 1962 وشمل سوَر: "الضحى"، "الشرح"، "الزلزلة"، "العاديات"، "النازعات"، "البلد"، "التكاثر"؛ والثاني سنة 1968 وفيه تناولت: "العَلق"، "القَلم"، "العصر"، "الليل"، "الفجر"، "الهُمَزة" و"الماعون". وربّما كانت تنوي مواصلة شرح كتاب الله بأكمله، لولا أنها ذاقت في المشروع شدّة عَناء، أو لعلّ ما أنجزته كان مجرّدَ "بروتوكول" تفسيريّ، تَاركةً مهمّة إكماله وتطبيقه على سائر السوَر لمَن سيأتي بعدها من الدارسين. لكن، وحَسب علمنا، لم نَر مَن تَصدّى لهذه المهمّة ولا تقحّمها، لصعوبتها.

وأمّا المَنهج المُتّبع فتؤكّد أنّه يقوم على "استقراء اللفظ القرآنيّ في كلّ مواضِع وُرودهِ، للوصول الى دلالته، وعرض الظاهرة الأسلوبية على كلّ نظائرها في الكتاب المحكم وتدبّر سياقها الخاصّ في الآية والسورة، ثم سياقها العام في المصحَف كلّه، التماساً لسرّها البياني". ويحتلّ التحليل المعجميّ لمعاني مُفردات القرآن مكانة مركزيّة في هذا المنهج، عبْر العودة إلى كلّ السياقات الأخرى التي وَردت فيها تلك المفردات، رغم أنّ هذه الطريقة لا تخلُو من مآخذَ، فمعاني كلمات القرآن يُمكن أن يكونَ قد طاولها التطوّر حسب السياقَيْن المكّي والمدنيّ، ولا يبعد أن تَتَغيّر على مدى اثنتين وعشرين سنة.

ناضلت كي يُدرس القرآن كنصّ أدبي في الجامعة المصرية

شيّدتْ بنتُ الشاطئ تفسيرَها لهذه السور المختارة على مبدأ "المَلْمَح البلاغيّ"، أي: النقطة التي تَشتغل في النصّ بمثابه المُولّد العام للمعنى (أو isotopie، حسب تسمية السيمائي الفرنسي غريماس)، وهو المُتحكّم في الدلالة الإجماليّة وبه تُعلّل كلّ الاختيارات المعجميّة والبلاغيّة داخلَ السّورة الواحدة. والملْمح البلاغيّ ظاهرة أسلوبيّة تربط بين مكوّنات النص، وهو أدقّ من مفهوم القيمة البلاغيّة العامّة التي تُستخرج من خلال التحليل البلاغي المُتوارَث عن القدماء.

فهي مثَلاً حين تحلِّل أسلوبَ "القَسَم"، المستخدم في أوائل سور "الضحى" و "العاديات"، لا تَذهب إلى ما اعتَمَده المفسّرون القدامى جميعاً، منذ الطبريّ الى محمد عبده، من كونه دالّاً على التأكيد وتعظيم المُقْسَم عَليه، بل باعتباره ملْمحاً أسلوبيّاً يفيد في ربط مقصد السورة بكلّ معنى من معاني الآيات اللاحقة بل وكلّ كلمةٍ من كلماتِها. وهكذا، تَظهر عدم كفاية مبدأ التأكيد هذا، بل وتَسبُّبه في وقوع تناقضات وتعسّفاتٍ ارتكبها المفسّرون حين حاولوا الرّبط بين عظمة الله وقَسَمَه بالتّين أو بالليل، وثمّة في الظواهر الكونيّة ما هو أعظم منها.

التفسير البياني للقرآن - القسم الثقافي

وهكذا تمكّنَت بنتُ الشاطئ، بهذا المنهج البيانيّ، من تفنيد العديد من التفسيرات القديمة والتعليلات التي أسقطها البلاغيّون والمفسّرون لأنها تناقض العقلَ ولا تستنفذ جماليةَ النص، ولأنها تُدوولِت كتعليلاتٍ جاهزة أفْضَت إلى تضييق الدّلالة وحَصْرها في نطاق محدودٍ قد يناقض أحياناً المقصدَ الإلهي منها. بل إنّها لا تتورّع عن إجراء ردودٍ حاسمة على ما قالَه أساطين المفسّرين، مثل أبي حيّان والرّازي والزمخشري، عندما يغفلون بعضَ اللمحات الثاقبة من أجل السّير وراء آراء جاهزةٍ، أو مُعتقداتٍ كلاميّة وفقهيّة يَسعون الى تبريرها، حتى وإن أضاعوا بذلك أصولاً بلاغيّة عزيزة.

ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى استيعابها كلّ التراث التفسيري، فهيَ تستعرض الآراء السابقة وتنتقي منها ما يدعم الملامح التي تستكشفها في كلّ سورة، وتنتقد ما كان منها متكلّفاً لا ينسجم مَع الحيويّة الداخليّة للسورة، والتي لا بدّ من تحريكها حتى يَضوعَ مِسْكُها. كما أنّها استفادت من المناهج الحديثة التي اهتَمّت بدلالة الظّواهر الأدبيّة وآليات التحليل الأسلوبيّ النفسيّ التي استخدمها، في مصر طيلة القرن الماضي، أساتيذُها عبّاس محمود العقاد، طه حسين ومحمد مندور وغيرهم.

وتسعى بمنهجها هذا إلى الردّ على التأويلات الطائفية البعيدة التي أسقطت على النصّ وحرّفت مَعانيه، ليس فقط بسبب التعصّب الديني أو المَذهبي، وإنما بسبب القصور في إدراك السّمات البلاغية وتجَاهل روح العربيّة الأصيلة. ولذلك لا تخفي بنت الشاطئ دافعها القومي، وقد كان الظرف العربي وقتها مؤاتياً، بدعوة العَرب إلى التلاقي عند الكِتاب العربي المبين بوصفه كتاباً جامعاً، يُنفَذ إليه بعيداً عن حجب التأويلات المغرضة والأذواق الأعجميّة.

فنّدت بمنهجها البياني تفسيرات قديمة ضيّقت دلالة السوَر

ولئنْ ركّزت بنت الشاطئ على التحليل الألسني لِظواهر الأسلوب القرآنية، فلأنها كانت تخوض معركةً في الجامعة المصرية وتناضل من أجل تدريس نصوص القرآن كنصٍّ أدبي ينبغي أن يُعتنى به إلى جانب الآثار الدنيويّة الأخرى. ولا يزال هذا النّضال وجيهاً إلى حدّ اليوم، حيث يقتصر تدريس القرآن على كونه مدوّنةً دينيّة، في أقسام الشريعة والعلوم الدينية فَحسب، ولا يُدمج البتّة في أقسام اللغة والآداب العربية، مع أنّه يظل، حسب رأيها ورأيي، "كتابَ العربيّة الأكبر". ولا تفوتُ الإشارة هنا إلى جماليّة أسلوبها هي، فكأنّها - في تفسيرها - تصوغ نصّاً على نصّ وتحبّر عليه أثراً بليغاً، إذ كانت عبارتُها ناصعة تُجلي جميلاً من المَعاني بأسلوب متين.

"الإعجاز" البياني مقولة تنحدر من جدالاتِ علم الكلام الذي طوّره المسلمون للردّ على غيرهم للبرهنة على معقوليّة العقائد الدينيّة، "بعد فرضها صحيحةً من الشرع"، كما ذكر ابن خلدون، ولا يتأتّى اليوم الدفاع عن هذا الإعجاز أمام خطابات لا تؤمن بقداسة القرآن ولا بألوهيّة مَصدره، ممّا يستلزم إعادة نشر جديدة لمظاهر أدبيّة النصّ الديني للكَشف عن فرادته، دون تعسّف ولا تكلّف ولا إسقاطٍ، وهذه هي القيود والحدود الحديثة التي على الباحثين التصدّي لها حتى لا يظلّوا في منطقة التمجيد متمسّكين بمنطق التبرير لقضايا لم تعد اليوم هاجسنا الأوّل.

ومن جهة أخرى، فإنّ الإيغال في التحليل الأسلوبيّ للنصّ وتفكيكه الى وَحداته الدنيا وفويرقات المعنى ومَلامح القيم الفنية وتأثيرها، قد يجعل من قارئ القرآن أمام نَصٍّ تقنيّ، يتطلب استيعابُه كدَّ الرّويّة، كما قال التوحيدي، ويمنع التعامل التلقائي مع كلام الله، الذي لا يتطلّب سوى لحظاتٍ مِن عَفويّة الإيمان.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون