يرتبط عصر التدوين، الذي عرفه العرب بدءاً من النصف الثاني من القرن الثاني الهجري (أواسط القرن الثامن الميلادي)، بسياق حضاري متراكم تَشَكَّل استناداً إلى إرث من الروايات الشفهية المتضمّنة معارفَ وأخباراً تمّ تناقلُها وتداولُها وفق مناهج وقواعد مضبوطة ومتوافق عليها، قبل أن تجد طريقها للكتابة على الورق.
في مسارين متوازيين، تطوّرت المدوّنتان، المكتوبة والمروية، مع سعي النخبة لحفظ الثقافة المؤسِّسة للحضارة الوليدة من حديث وعقيدة، وكذلك الشعر وغيره من الآداب التي ساهمت في تطوّر العربية كلغة رسمية، ومعه التاريخ والسيَر لجملة وقائع وأحداث صاغت منظوراً متعدّداً لواقع التمّدن والازدهار في العهد العبّاسي، ليبدأ بعدها الاهتمام بالفلسفة وعلوم اعتَمَدت على النقل والترجمات من حضارات أخرى.
تقرأ المستعربة الألمانية بياتريس غروندلر (1964)، في كتابها "نشأة الكتاب العربي" الذي صدرت حديثاً نسخته العربية عن "دار معنى" بترجمة إبراهيم بن عبد الرحمن الفريح، نماذجَ من نقاشات ومواقف لعلماء وشعراء وورّاقين وكُتُبيّين من عصر التدوين، في محاولة لفهم تأثير الكتابة في تشكّل الثقافة العربية حتى اليوم.
تتقصّى المؤلّفات الأولى التي ساهمت في انتشار العربية
وفي مقدّمتها، تشير المؤلّفة إلى واحدة من نقاط التحوّل المغفلة في التاريخ، متمثّلة بحسب تسميتها بـ"ثورة الكتاب في الشرق الأدنى العربيّ الإسلاميّ"، حيث تعقد مقارنات بين واقع المكتبات في أوروبا خلال القرن الثالث عشر الميلادي، وكانت أكبرها، وهي مكتبة جامعة باريس، تحوي أقلّ من ألفَيْ مجلّد، بينما كان في خمس مكتبات ببغداد وحدها ما بين 200 ألف ومليون مجلّد في كلّ مكتبة، بما في ذلك نسخٌ متعدّدة من الأعمال المرجعيّة عينها؛ لضمان وصول قرّاء مختلفين لها في الوقت ذاته.
ومن أجل وضع تصوّر متكامل حول مشهدٍ غاب عن الأدبيات الغربية التي تتناول تلك الفترة، ويتوزّع بشكل متناثر في المصادر العربية، تجمع غروندلر أخبار شخصيات بارزة في التصنيفات التراثية المبكّرة، تضيء بدورها مواقف شخصيات لم تحظَ بقدر أكبر من التفصيل، لتستجلي من خلال كلّ هذه النصوص نهضة الكتاب في فترة ذهبيّة من الازدهار الثقافي.
وتتقصّى جملة المؤلّفات الأولى التي ساهمت في انتشار اللغة العربية وصقل نظام الكتابة بعد القرآن، وأبرزها "الكتاب" الذي ألّفه سيبوبه في قواعد النحو، والذي ظلّ مرجعاً رئيساً رغم كثرة التأليف في هذا المجال خلال العصور اللاحقة، وكذلك "الفهرست" الذي صنّفه ابن النديم، في القرن الرابع الهجري، في تراجم المؤلّفين وعناوين كتبهم المخطوطة، تلك التي امتلكها أو علم عنها من مصدر موثوق، مدرجاً فيه نحو ثلاثة آلاف وخمسئمة مؤلَّف.
وترى أن إنتاج هذا العدد الضخم من الكتب يتطلّب لغة سائدة وموضوعات ذات اهتمام مشترك وملحّ لكتّابها وقرّائها، وحدث ذلك منذ حكم عبد الملك بن مروان حيث حلّت العربية عملياً محلّ اللغة الفارسية الوسطى واليونانية المستخدمة سابقاً في الإدارة، بحيث استخدمت في كل شيء من النقوش والمسكوكات إلى الرسائل الخاصة، كما لعب الأدب الشفهي المتداول دوراً كبيراً في استخدام الكتب نظراً إلى الحاجة الملحّة لتدوينه، وكذلك الأمر بالنسبة للحديث النبوي الذي أفضى جمعه إلى ظهور علم الكلام والفقه.
لعب الأدب الشفهي المتداول دوراً كبيراً في استخدام الكتب
وتوضح غروندلر أنّ صناعة الكتاب تطوّرت على نحو متسارع في بغداد العبّاسية التي وصفها المستشرق البريطاني هيو كينيدي بأنها كانت "أوّل مكان في العالم يمكن فيه للمؤلّف أن يكسب رزقه من تأليف كتبٍ تُباع في السوق للعامّة المتعلّمة، وليس كونه ثرياً مستقلّاً أو لديه راعٍ ثريّ، أو حتى كونه جزءاً من من مؤسسة مثل الدير (لدى الغرب المسيحي) تدعم أنشطته". وحاز مؤلّف الكتب أو راويها مكانة مهمة كونه المدرّس أو الشارح الذي لا يمكن الاستغناء عنه حتى الربع الثالث من القرن الثالث الهجري، حين حلّ الكتاب محلّ مؤلّفه، وفق رواية الجاحظ، مع توافر مراجع كثيرة في جميع المجالات.
في الفصل الأوّل، "العلماء"، تتابع المؤلّفة الصدام الذي حدث حول الكتاب بوصفه وسيطاً جديداً بين اثنين من كبار علماء اللغة في نهاية القرن الثامن الميلادي/ الثاني الهجري، أي الأصمعي وأبو عبيدة، وهما مَن شكّلا مع أبي زيد الأنصاري المدرسة البصرية النحوية. ورغم امتلاك الأول ذاكرة فوتوغرافية عزّ نظيرها بين مجايليه، بفضل سعة حفظه لعشرات آلاف الأبيات والروايات الشفهية وبراعته الفائفة في توظيفها بحسب ما تقتضيه المواقف في بلاط الخلفاء والوُلاة ومحافل الدرس. إلّا أن نموذج الباحث/ المؤدّي الذي سعى لإتقانه لم يعد النموذج الوحيد في عصره، كما أن انتهاجه لأسلوب معيَّن في المصادر جعله متراجعاً في عالم لم يستطع مقاومة تدفّق الكتب، وبذلك تفوّق أبو عبيدة عليه، برغم عدم فصاحته وقّلة ما يحفظ شفاهةً، نتيجة ما تركه من مخطوطات.
غيّر الكتاب، بوصفه أداةً معرفية، طبيعة العلوم نحو مفهوم جديد للمعرفة. وحدث ذلك بسرعة مدهشة توقّعها أبو عبيدة، وترافق مع ازدهار المكتبات الخاصّة وأسواق الكتب ومهنة الورّاقة، وسرعان ما تنوّعت المهنة إلى صانع أو تاجر للورق، وناسخ القصر، والورّاق المرتبط بمؤلّف، والباحث ــ الورّاق جزئياً، والورّاق الحرفيّ المتفرّغ، وصانع الكتب أو تاجرها أو مُقيمها، كما "كثرت الانتهازية والاحتيال، ممّا يدلّ على مدى الربح الذي أصبح عليه إنتاج الكتب:، كما تشير غروندلر.
يُفتتح الفصل الثاني، "الشعراء"، بالحديث عن أهمّية الشعر لدى النحويّين الذين جعلوه موضوعاً لخبرتهم وحيّزاً لحياتهم المهنية في التدريس والأداء في تجمّعات البلاط وتأليف الكتب. لكنّ المؤلّفة تبحث عن الإنتاج الذي تركه الشعراء وحضورهم في سوق الكتب الناشئة، مستعرضةً سيرة دعبل الخزاعي الذي كان أحد المشاركين الفاعلين فيها، لكونه أوّل شاعر كتب كتاباً عن الشعراء، مفسّرةً اختيار الهجاء على المدح لفاعليته الأكبر في ضمان الدخْل.
وتتطرّق إلى اعتماد النقّاد ــ المعاصرين واللاحقين على كتابات دعبل حول سيَر الشعراء ــ على أحكامه عن القيمة الجمالية للشعر، وأيضاً على دوره كناقد في المجالس الأدبية وفق الروايات، وخاصة في اتهامه الصريح لأبي تمّام بالسرقة الأدبية، والذي حاز جانباً من الموازنات بينه وبين منافسيه، وفي مقدّمتهم البحتري، وبرزت ردودٌ كثيرة تفنّد هذه الاتّهامات أو تسندها.
لكنْ يُحسب لدعبل، كما تُبيّن المؤلّفة، أنه أول شاعر يقلب الطاولة على علماء اللغة بوصفهم محكّمين للشعر الجيّد، ويكتب كتاباً ضمن نطاقِ ممارسته، صاغ فيه معاييرَ جمالية قابلة للتحديد، ووثّق رؤية مهنية واتساقاً غير معتاد في عصره. التقط أحوال الشعراء، ووضْعهم القَبَلي، ومنشأهم المحلّي، ومناصبهم، وانتماءاتهم إلى السلطة، وغالباً ما كانت المقاطع الشعرية التي اختارها لقطاتٍ من الحياة الواقعية.
أمّا الحديث عن الورّاقين، في الفصل الثالث، فيلفت إلى أن معظمهم من رُواة الحديث، حيث احتاجوا إلى نشاطٍ ثانٍ ليكون مصدراً للدخل، وكانت الورّاقة خياراً منطقياً وممكناً. وقد انقسموا إلى أربعة أنواع؛ المحدّث الذي نسخ أعمالاً استمع إليها مِن أحد الشيوخ؛ والورّاق الذي كان يستعين به عالمٌ بارز؛ وراوي الكتب الذي اختصّ بنسخ مجموعة من محدّدة من الكتب وحاز نسخها الوحيدة؛ والورّاق ــ المؤلّف الذي باع كتبه فقط.
وتؤكّد غروندلر بأن الورّاق لم يكن ناسخاً فحسب، بل لزمه امتلاكُ فهمٍ أساسي لمحتوى الكتب التي نسخها، وكانت طريقة اكتساب مثل هذه المعرفة ما تزال غير مستقرّة في بداية القرن التاسع الميلادي/ الثالث الهجري، ولكن في أثنائها جاء المتعلّم ذاتياً والباحث المستقلّ، الذي يعمل خارج دائرة التسويق، لينال موضعاً آمناً في عالم المعرفة المتغيّر الذي أسهم فيه التزايد السريع لتوفّر الكتب.
"الكتبيّون والقرّاء" عنوانُ الفصل الأخير الذي يُسهب في تفصيل واقع المكتبات في عصر التدوين، والتي دلّت على وجاهة المُقتنين، ودور تلك المكتبات التابعة للمؤسّسات كمكان لتجميع المعرفة. كلّ ذلك حدث خلال العقود الثلاثة في مطلع القرن التاسع الميلادي/ الثالث الهجري؛ ولم تجعل الكتب ــ بوصفها مُداولةً للأفكار ــ نموّ الكثير من التخصصات ووجود المؤلّف المستقلّ ممكناً فحسب، بل أزالت أيضاً سيطرة مؤلّفي الكتب وعرّضتهم للنقد، وجعلت حياة أصحاب الكتب أقلّ أماناً من خلال استخدامها دليلاً في الملاحقات القضائية.