يبدو أنه من حظّ، أو سوء حظّ الكاتب النمساوي بيتر هاندكه أنْ يبقى مرتبطاً بالبوسنة وموقفه من نفي المجازر الجماعية التي حلّت بالمسلمين هناك بين عامي 1992 و1995، وهو ما أثار ضجّة كبيرة حين حصل على جائزة "نوبل للأدب" في عام 2019. ضجّة تهدأ حيناً ثمّ لا تلبث أن تهبّ من جديد مع حدثٍ ما أو صدور كتاب يعيد هذه الشخصية الملتبسة إلى الأضواء.
يبدو الأمر مختلفاً هذه المرّة، لأنه يتعلّق بكتابٍ صدر في صربيا عن هاندكه، وفاز منذ أيام بجائزة أفضل كتاب صادر في صربيا خلال 2022. ولم يكن مثل هذا الكتاب ليثير اهتماماً كهذا لولا أن مؤلّفه هو المُخرج أمير كوستوريتسا (كوستاريكا كما يُعرف عربياً بسبب ترجمة لفظ الاسم عن الإنكليزية)، الذي أصبح، هو أيضاً، شخصية إشكالية في السنوات الأخيرة. والأهمّ من هذا وذاك أن الكتاب الجديد وما رافقه في حفل الإشهار من تمجيد بالمؤلِّف (كوستوريتسا) والمؤلَّف عنه (هاندكه) خلط على نحو غير مسبوق ما هو ديني بما هو سياسي، ليجعل كلاهما مشاركاً في قضية مقدَّسة: الحماس للدين الواحد (الأرثوذكسية) والشعب الواحد (الصرب) ضمن الاستقطاب الذي تشهده صربيا نتيجةً للحرب في أوكرانيا.
علاقةٌ قديمة ومريضة بين شخصيّتين إشكاليّتين ومنحازتين
وإذا كانت علاقة هاندكه بالرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش معروفة، وهو مَن جرّ يوغسلافيا إلى سلسلة حروب بسبب مشروع "صربيا الكبرى"، وجعلته ينحاز إلى الصرب في حرب البوسنة (1992 - 1995) التي كان المسلمون ضحيّتها الكبرى، فإنّ أمير كوستوريتسا هو الشخصية الإشكالية التي كانت تُناسب هاندكه، والتي جعلت من حائز "نوبل للأدب" بطلاً و"منقذاً للشرف الصربي"، كما يمكن لنا أن نقرأ في كتاب كوستوريتسا الجديد، "ألا ترى أنّي لا أرى"، الذي صدر في بلغراد صيف 2022 وفاز أخيراً بجائزة أفضل كتاب صربي صادر في العام نفسه.
كان اسم كوستوريتسا، ابن الصحافي مراد كوستوريتسا، قد ارتبط في السنوات الأخيرة ليوغسلافيا التيتوية بصعوده كممثّل في الفترة الأخيرة ممّا يُعرف بأفلام البارتيزان، ثم كمخرج لفت إليه النظر مع فيلمه الأول "هل تذكر بوبي دول؟" (1981) الذي كشف فيه دواخل المجتمع المسلم في البوسنة، بينما فاز فيلمه اللاحق، "أبي في مهمة رسمية" (1985)، بجائزة السعفة الذهبية في "مهرجان كان" سنةَ صدوره، ليصبح اسماً معروفاً خارج يوغسلافيا، وصولاً إلى فيلمه الآخر "أندرغرواند" (1995)، الذي فاز أيضاً بجائزة السعفة الذهبية في "كان" سنة خروجه إلى الصالات. كان هذا الفيلم يجري تصويره في ذروة الحرب في البوسنة (1992 - 1995)، والتي أفضت إلى مأساة سربرنيتسا، وهو الوقت الذي بدأت فيه الملاحظات في المجتمع المسلم تتصاعد حول "انحياز" كوستوريتسا إلى الطرف الصربي.
ولكنّ الأهم في ذلك أن هذا الفيلم كان بداية لعلاقة طويلة و"مثمرة" بين كوستوريتسا وهاندكه. فقد هاجم "المفكّر" الفرنسي والشخصية الملتبسة برنارد هنري ليفي فيلم كوستوريتسا "أندرغراوند" معتبراً إيّاه "بروباغاندا صربية - أميركية يجب تجاهلها"، بينما برز آنذاك بيتر هاندكه، المتماهي مع ميلوشيفيتش ومشروعه، ليدافع عن كوستوريتسا، وهو ما جعل المخرج ممتنّاً له حتّى خصّص له كتابه الأخير، الذي حظي بترويجٍ كبير قبل فوزه بالجائزة.
يخلط الأدبَ بالدين والسياسة ويجّيش الشارعَ لأجندة معيّنة
في غضون ذلك، كانت العلاقة تتوثّق بين هاندكه وكوستوريتسا لتشمل الدين والسياسة. ففي 2005، مع تصاعد الملاحظات ضدّه في المجتمع المسلم في البوسنة، قام كوستوريتسا بتعميد نفسه في دير القدّيس سافا باسم نيمانيا كوستوريتسا، ليُصبح صربيّاً على المذهب الأرثوذكسي. ومع توثّق العلاقة بينهما، خصّص كوستوريتسا كتابه المذكور عن هاندكه وعلاقته بالصرب، وهو كتاب بجمع بين الواقع والخيال، بين رحلة هاندكه إلى صربيا وعبوره لنهر درينا الذي يفصل صربيا عن البوسنة، وبين رحلة هاندكه إلى استوكهولم لتسلم جائزة "نوبل للأدب".
كان الاحتفاء بصدور هذا الكتاب في بلغراد يوم 5 حزيران/ يونيو 2022 يتّسم بحضور سياسي وأدبي رسمي (الرئيس الصربي السابق فويسلاف كوشتونيتسا، ووزير الخارجية الصربي السابق فوك يرميتش، والشاعر ماتيا بتشكوفيتش، وغيرهم) وبكلام غير مسبوق، جعل الكتاب يصدر في عدّة طبعات لاحقة تجاوزت مائة ألف نسخة.
أمّا الجديد في هذه المناسبة، فقد كان ما قاله أوّلاً المؤلّف كوستوريتسا عن علاقته الشخصية الوثيقة مع هاندكه، إذ اعترف المُخرج بأنه حاول أوّلاً فهم الكاتب النمساوي من خلال مؤلّفاته، ووصل إلى أن "الفلسفة هي المجال الرئيس لإلهامه"، مع فارق أن هاندكه قد تجاوز نيتشه وأصبح "يؤمن بالله ويحرص على الصلاة في الكنيسة الروسية". ومع حماس كوستوريتسا لِدِينه الجديد، الذي جعله يكشف عن صربيّته أيضاً، انتهز هذه الفرصة ليقول إن الأوضاع المستجدّة تدفع إلى العودة إلى الدين، وقال إنه متأكّد أن نيتشه لو عاد الآن إلى الحياة "لَبَحَث عن الله وعاد إلى جذور الدين التي قوّضها".
بدوره، امتدح الشاعر الصربي المعروف، وعضو "أكاديمية العلوم الصربية"، ماتيا بتكوفيتش، كلّاً من هاندكه وكوستوريتسا بشكل لم يسبق له مثيل. فقد امتدح هاندكه لأنه كتب عدّة مؤلفات عن الصرب، ولكنّ أيّ صربي لم يقم بتأليف كتاب عن هاندكه إلى أن قام بذلك كوستوريتسا و"حَمَى شرف الكتابة الصربية" أو "شرف الصرب"، كما جاء في تغطية جريدة "تلغراف" الصربية لهذه الاحتفالية (عدد 6/ 6/ 2022).
مع هذا الكلام الكبير الموجّه إلى الشارع الصربي، ضمن التنافس على استقطاب الصرب لصالح الشرق (روسيا الأرثوذكسية) أو الغرب (الاتحاد الأوروبي)، كان من المُلفت للنظر أن يُعاد طبع هذا الكتاب بكمّيات غير مألوفة خلال عام 2022. وقد تعزّز ذلك بالإعلان منذ أيام عن فوز كتاب كوستوريتسا بـ"جائزة ديان مداكوفيتش" التي تُمنح لأفضل كتاب صادر في صربيا في السنة الفائتة. ومع التقدير لِما يصدر في صربيا من كتب قيّمة في مختلف المجالات، فقد جرى الإعلان عن أن لجنة التحكيم "قد اتّخذت القرار بالإجماع"، ووصف رئيس اللجنة، الكاتب بوشكو سوفايجيتش، هذا الكتاب بأنه "تاريخ مؤثّر ومثير للمشاعر لشخصية كبيرة تجاوزت بالفعل كلّ العقبات وحواجز الحداثة المؤدلجة والمقولبة".
هذا الكلام الذي يخلط الأدب بالدين والسياسة ويجيّش الشارع لأجندة معيّنة، ربما نستذكره بعد أسابيع، عندما يتّضح إلى أين تتّجه صربيا بين الضغوط التي تُمارس عليها: نحو موسكو أَم بروكسل؟
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري