دعاني هشام لحضور احتفال دخول بيته الجديد، ولم ينسَ أن يضمّن كلماتٍ ودّيةً في هامش خطابه، وهو خطاب وصلني بعد فترة طويلة من مغادرتي تلك المدينة. بعد ذلك، لم يلبث أن تلاشى جسر الودّ بيننا حتى انقطع عني خبره. نعم، يمكنه فيما بعدُ أن ينقل أمّه الطيّبة إلى داره الجديدة، وقد أحزن قلبه دائماً غيابها في المدينة. حين سكنتُ في تلك المدينة، كنا نجتمع في مكانٍ ما كلّ يوم تقريباً، وكان يتحدّث عن آلامٍ تعيشها أمّه الفقيرة.
كان هشام يسكن آنذاك في بيت صغير ضيّق، وكان لا يملك إلّا رقعة أرض ورثها عن أبيه، بنى فيها كوخاً صغيراً. وحين ارتفع سعر الأرض من جرّاء طفرةٍ نفطية حدثت في الدول العربية، أذنت له أمّه ببيعها. لم تكن تتمنّى إلّا أن يبني ولدُها البارّ داراً في المدينة، ولو بتلك الأموال، وهي التي نذرت أيّام عمرها لولدها الوحيد هذا. كان هشام شديد الانزعاج من أنّ أمّه لم تكن تشكو أوجاعها أبداً، حتّى حين كانت تقضي نهارها عاملةً في مطابخ الأثرياء.
ثمّة صورة في بيت هشام معلّقة على أحد جدرانها؛ تمثل أمّاً تحمل طفلاً صغيراً. كان ذاك الطفل هو هشام.
ــ مات زوج أمّي وهي في الثالثة والعشرين. كان ذلك على وجه التحديد قبل مولدي بثمانية وعشرين يوماً.
ــ أمك جميلة.
ــ نعم... ذلك ما أوجعني دائماً. كنت أعاتب نفسي كلّما تذكّرت أنّ أمي استنزفت شبابها لتزدهرَ حياتي. لم أكن لأحزن بهذا القدر لو كانت تزوّجت رجلاً آخر.
ربّما كان من الجيّد أن أصل إلى بيته بعد زحام المدعوّين
مرّة واحدة فقط، ذهبتُ مع هشام لأزور تلك الأمّ البائسة، فما رأيت إلّا ظِلّاً لجمالها القديم. وأذكر أيضاً حديثها معي وهي تضع يديها فوق يدي. نظرتُ إلى أصابعها المتورّمة التي شوّهتها الفِطريّات، وعينيها اللتين أصبحتا مسوَدّتين لوقوفها أمام الفرن ونفخها المتكرّر فيه، لكنّ عينيها هاتين لم تفقدا بهجتهما، ونفذتْ كلماتُها اللطيفة إلى قلبي من غير استئذان.
ــ يا هشام، من حظّك الموفور أن تنال فرصةً لتعيش تحت جناحَيْ هذه الأم الحنون حتّى تفيض روحك.
ــ نعم يا غالي... مع ذلك كلّه، قضت السماء أن أفارق أمي.
ــ سيكون كل شيء بخير.
نعم، هذه دارٌ يمكن لهشام أن ينقل أمه إليها. كنت أستطيع أن أتخيّل قدر فرحه الشديد وسعادة تلك الأم في احتفال دخول البيت الجديد. لكن، حال دون زيارتي له انهيارٌ جبَليّ إثر سقوط أمطار غزيرة في تلك المدينة.
بعد شهرين من دخوله البيت الجديد، انطلقتُ إليه لأهنّئه باليُمن والبركة. ربّما كان من الخير أن أصل إلى بيته بعد زحام المدعوّين إلى الاحتفال، وكانت زوجته ليلى قد جعلت تلك الدار جنّةً غنّاء، وقد انتبهت إلى دقّتها في وضع الأمتعة في مكانها. وعلى الرغم من أنّها عاشت في غرفة صغيرة، كانت زوجته امرأةً ذات خيال مذهل.
لكنني ما رأيت في تلك الدار أمَّ هشام. عندما سألته عنها، أخذَ يصف متاعب الحياة وصعابِها: "كبر أطفالي، وعندما أخذ كلّ واحدٍ غرفةً، ما وجدت أمّي مكاناً يتّسع لها، ولذا حملتُها إلى دار المسنّين، حيث أراها تعيش حياةً رغيدةً، وتزهو مع أترابها، ويمكنني أن أتفقّد أحوالها وأزورها أنّى شئت".
نعم، ممّا شدّني في بيته الجديد غيابُ صورة الأمّ التي تحمل طفلها. وضع هشام مكانها صورةً كبيرة لذلك الناسك الذي يلبس دائماً ثوباً أبيضَ وإكليلاً ذهبياً، وكان تحت الصورة مصباحٌ أحمر ترقص حوله هالاتٌ من الأنوار.
* وُلد في سوريندرن P. SURENDRAN عام 1961 في منجيري، بولاية كيرالا، في الهند. يُعتبَر من أبرز كتّاب القصّة القصيرة المعاصرين في لغة الماليالام (الماليبارية). نشر أكثر من ثلاثين كتاباً بين قصص وروايات ودراسات، وحصل على عدّة جوائز في القصّة وأدب الرحلات، مثل "جائزة أكاديمية كيرالا للقصّة" (2003).
** ترجمة عن الماليبارية: عبد الرشيد الوافي، باحث دكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها في "جامعة كاليكوت" بكيرالا، الهند