استمع إلى الملخص
- استشهاد بزيارة لعائلة فلسطينية فقدت 52 فرداً في غزة، معظمهم أطفال، لتبرير استخدام عبارة "إسرائيل قاتلة الأطفال" بناءً على الواقع الأليم.
- تأكيد الكاتب على أن تجربته الشخصية ومعاناة الفلسطينيين تُشكل أساس تصوره للشر، مُعبراً عن رفضه للعنف والإبادة بغض النظر عن الدين أو الأيديولوجيا.
زعم صديقٌ ألماني أنّ نداء "إسرائيل قاتلة الأطفال نداءٌ معادٍ للسامية"، فقد ربطَها بالإشاعة التي أطلقها مسيحيو أوروبا ابتداءً من عصورهم الوسطى بأنّ اليهود يخطفون أطفال المسيحيّين ويقتلونهم سرّاً، ولامني كيف لا أعترض على ترديد مثل هذه العبارات في المسيرات المتضامِنة مع الفلسطينيّين.
أجبتُه: "أنا لست خبيراً إلى هذه الدرجة في معاداة السامية". وفعلاً، حين كنتُ أسير في التظاهرات المندّدة بحرب الإبادة على غزّة، لم أكُن أفكّر سوى في مئات الآلاف من الضحايا الذين سقطوا ويسقطون، بوتيرة مرعبة وقاهرة ومخيفة، ولا أرى في "إسرائيل" سوى مستعمِرة مجرمة، تُبيد الشعب الأصلاني، ولا يوجد من يتجرّأ فيعترض على هذه الإبادة.
في تلك اللحظات لا أفكّر في ديانةٍ ولا أكترث لأيديولوجيا، ولا أُردّد سوى ما أراه على أرض الواقع. "إسرائيل" كيانٌ استعماري قتل، خلال ستّة أشهر، ما يزيد عن عشرين ألف طفل. إذن: "إسرائيل" قاتلة أطفال.
لا يوجد في ثقافتي وتصوُّري عن العالم وميولي السياسية أكثر من هذه الحقيقة الملعونة التي تطاردني في منامي وتوقظني على كوابيس مُرّة. أراني مدفوعاً بها إلى الشوارع، أصيح مع من يصيح، وأصرخ مع من يصرخ، لعلّ شيئاً في هذا العالم الملعون يتحرّك فيُوقف قتل هذا العدد المهول من الأطفال، وقتل أيّ طفل وأيّ امرأة وأيّ رجُل بلا ذنوب ولا خطايا. من يقتل ويُبيد ملعونٌ أيّاً كان دينه ومنشأه وفكره، ومن يُباد حُقَّ نصره وإسناده، أيّاً كان ومهما كان. فكيف إذا كان الضحايا هم أهلي؟ كيف إن كنتُ أعرف كثيرين ممّن استشهدوا في هذه الحرب الملعونة؟
تصوّري للشرّ مرتبط بالفعل والنتيجة لا بالتخاريف
أنزل إلى التظاهرة بعد أيام من زيارتي، في وفد أصحاب، إلى شابّ نعرفه من غزّة، لنعزّيه في فقدان اثنين وخمسين فرداً من عائلته. اثنان وخمسون فرداً! لم أتصوّر، في حياتي، أن أذهب للعزاء في اثنين وخمسين فرداً دفعةً واحدة، احتموا جميعاً في بيت واحد، في مخيّم جباليا الضيّق والمتراصّ. كان معظمهم من الأطفال، هكذا حدّثنا الشاب، أرانا صورهم، وحكى لنا حكاياتهم، منهم إخوته الصغار ووالدته ووالده.
هل بعد هذا أفكّر طويلاً قبل أن أصرخ في مسيرة: "إسرائيل قاتلة أطفال"؟ هل عليَّ أن أطيل التأمّل في هذه العبارة، ثم أُجري بحثاً تاريخياً لما قد تحمله من دلالات وإسقاطات؟ أيّ دلالة أفدح من التي أعرف؟ أيّ إسقاط أفظع من الواقع؟ لست خبيراً في معاداة السامية، لست خبيراً لا في العداء ولا في السامية، لست خبيراً في شيء، لكنّي أعيش مع ملايين الفلسطينيّين واقعاً مرّاً وقاهراً، أعيشه حقيقةً وأعرفه واقعاً، وليس عندي ترف التفكير المليّ، ولا البحث والاستسقاء في خيالات غيري واشتراطاتهم.
لستُ من أطلق على اليهود (وغيرهم من الأقلّيات في أوروبا) هذه الإشاعة الفظيعة، ولست من اقترح حلّ مشكلتهم باصطناع كيان لهم، وحملهم على ترك البلاد التي انتموا إليها، ولست من يصرّ على أن يُسمّي هذا الكيان الدولة اليهودية الوحيدة في العالم، ولست من يخترع تعريفات لمعاداة السامية ثم يُلصق هذا الكيان بكلّ بند منها. ليست عندي قائمة طويلة من التصوّرات الخرافية التي أسقطها على أيّ شعب، ولا تصنيفات أتخيّلها عن "عناصرهم وأنواعهم".
كنت مشغولاً بالساعات الطويلة على "المحاسيم" (الحواجز) ونقاط التفتيش في طريقي إلى المدرسة، ومشغولاً بتفادي قنابل الصوت والغاز والأعيرة النارية. كان ذهني ممتلئاً بصور الأطفال والنساء والرجال القتلى، ومخيّلتي مشغولة بتصوُّر كيف يكون الأمن والاستقرار، لذا بقيت عباراتي مباشِرة ودون مجاز، وأحلامي واقعيةً ومملّة، وتصوّري للشرّ مرتبطاً بالفعل والنتيجة لا بالتخاريف والأوهام.
* كاتب فلسطيني مُقيم في ألمانيا