في عام 2019، قدّم ستيف سابيلا عمله "مسيرات العودة الكبرى"، الذي احتوى أكثر من ألف صورة فوتوغرافية التقطها صحافيون فلسطينيّون، سعى من خلالها إلى إبراز قطاع غزّة المحاصر والمعزول عن العالَم في لوحة جداريّة تحيل إلى "نضال الشعب الأبدي من أجل الحرية"، على حدّ تعبيره.
بعد حوالي خمسة أعوام، وفي لحظة يُطبق الحصار على غزّة في مقتلة يُمارسها الاحتلال الصهيوني منذ أكثر من أربعة أشهر، يُفتتح معرض الفنان الفلسطيني المقدسيّ بعنوان "التسامي" في "الديوان - البيت الثقافي العربي" ببرلين، في الأول من الشهر الجاري والذي يتواصل حتى الحادي والعشرين من نيسان/ إبريل المقبل.
المعرض الذي كان من المقرّر إقامته في العشرين من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، تمّ تأجيله دون إبداء الأسباب في لحظة انحازت خلالها المؤسسات الثقافية والإعلامية والأكاديمية في ألمانيا، ومعظم البلدان الأوروبية، ولا تزال، إلى الرواية الصهيونية.
أعمال فنية تُحرّر المُشاهد من الأفكار المحتلّة
ويضمّ المعرض أربعة مشاريع نُفّذها سابيلا عام 2020؛ الأوّل "الأرض الدائمة" الذي يستند إلى مجموعة صور من التطريز الفلسطيني المنسوج على مجموعة واسعة من الأزياء التقليدية التي انتقلت من جيل إلى جيل، ويتضمّن أيضاً تطريزة من نوع جديد احتفاء بفلسطين، والثاني بعنوان "صوت القدس"، وفيه صوّر أفق القدس من كلّ اتجاهاتها (من 360 درجة)، تحاكي تردّد الموجات الصوتية التي تقترب من الصواريخ في حركتها.
ويزاوج المشروع الثالث "مكان آخر" صوراً بالأبيض والأسود (فوتوكروم) من فلسطين التاريخية في القرن التاسع عشر، مع أُخرى من سورية ولبنان، جرى تلوينها باليد، في محاولة لخلق الشعور بالمكان/ فلسطين قبل الاحتلال، ويُعيد المشروع الرابع، تحويل مجموعة صور فوتوغرافية التي كان قد التقطها الفنّان في فترة سابقة إلى فيديو آرت بعنوان "خروج Exit"، وتتناول الصور أناساً يعيشون في المنفى، في آخر حياتهم.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول سابيلا: "أرى فني كعملية لتحرير الخيال من الاستعمار. إنه هنا حيث يبدأ كلّ شيء أصلي. ولكن، كان عليّ أولاً أن أتعلم بمساعدة الفن الأسرار الثلاثة للحياة، التي مكّنتني من الشعور بالرقص الكوني بشكل أفضل. السرّ الأول كان أن تكون، أو أن أكون وأدع الآخر يكون. هذا جعلني أقبل كل الآخر وواقعه، ممّا فتح المجال لفهم أفضل للذات والآخر. السرّ الثاني كان تعلُّم النظر بما وراء الرؤية العادية. من خلال الفنّ، اخترقتُ الطبقات العميقة من الضوء لرؤية اللّامرئيات. هناك، اقتربت من الحياة وسحرها. والسرّ الثالث هو سرّ المشاركة. لا يمكن الاحتفال بالاستقلال إلا بوجود الآخر. يمكن للشخص الاستمتاع بالرقص الكوني اللانهائي عندما يصبح مشاركاً فعّالاً، يضيف إلى ما هو موجود بالفعل".
ويتابع "في عام 2020، قمت بإنشاء فنِّ أقوم عادةً بإنشائه على مدى سنوات عديدة. في اللحظة التي انتهيتُ فيها من مشروع، بدأتُ العمل على مشروع آخر. معاً، نقلت هذه المشاريع حالتي من التجاوز، محتفية بالذات الحرّة أو المحرّرة، والوقت الذي يكتسبه المرء فجأة للتركيز على ما يهمّه. كنتُ في حالة من التسامي، متفجّر بالإبداع. نظراً للوضوح الذي اكتسبته آنذاك، أردتُ التركيز على فلسطين من منظور مُحرَّر، خلق سلسلةٍ من الأعمال الفنّية التي تحرّر المشاهد من الأفكار المحتلّة باستخدام تقنيات التصوير الفنّي التي تختلط فيها الحدود بين الرسم والتصوير الفوتوغرافي".
تفاهمٌ مع الماضي يقود في النهاية إلى التغيير والحرّية
وحول تحرّر الخيال من هيمنة المحتلّ، يشير سابيلا إلى أنه وُلد في البلدة القديمة في القدس، بعد ثماني سنوات فقط من احتلال "إسرائيل" لكامل المدينة، وعاش هناك لما يقرب من 33 عاماً، شهدت تغييرات جذرية على الأرض، وبالتالي، على كلّ تلة في فلسطين تقريباً، ليتوّجه فضوله لـ"معرفة شكل الأرض قبل استعمارها، عندما كانت الأرض حرّة".
ويلفت إلى أن مشروع "مكان آخر" هو رحلة إلى الأرض التي كانت؛ الأرض/ المكان الذي يعيش في خيالنا الواقعي، و خلال إعادة بناء الواقع، تكشف الرحلة البصرية عن هذا الماضي المنسي، مأخوذة بالمشاهد في رحلة إلى فلسطين قبل الاستعمار، مضيفاً "بعد سنوات من النظر في الصور والبحث لاكتشاف حقائقها الخفيّة، كتبتُ مرّة عن كيفية أن علم الآثار في المستقبل هو علم الصورة ونسَبها. هذه الصور بالأبيض والأسود، الفوتوكرومات من فلسطين التاريخية في القرن التاسع عشر، مع بعض الصور من سورية ولبنان، تمّ تلوينها ميكانيكياً في الماضي لمنحها شعوراً بالواقع. قمتُ بتركيبها، إعادة إنشاء شعور المكان كما لو كان المرء قد سافر عبر آلة زمنية ووجد نفسه فجأة هناك".
من جهة أُخرى، يصف إقامة معرضه في برلين في وقت يتواصل فيه العدوان الإسرائيلي على غزة بكلمة واحدة: "ضروري". ويوضّح "اليوم، يبدو الأمر أكثر تحدّياً من أي وقت مضى أن يكون المرء صوتاً إبداعياً. الآفاق أصبحت محدودة، وأيّ شخص يوسعه أن يدفع الثمن. يشعر المرء وكأنه يسير على حبل مشدود. لكن حتى لو كان المرء يسقط، بالنسبة لي، الثمن لا شيء مقارنة بكل الأرواح المفقودة على الأرض. يجب على ألمانيا أن تكون حذرة في الانحياز بشكل أعمى إلى جانب 'إسرائيل' بسبب تاريخها الداكن. ضدّ كلّ الاحتمالات، ترى الآن حركة تطلب من ألمانيا الاعتراف بدورها في تغيير واقع فلسطين التاريخية".
في مراجعةٍ لتجربته الممتدّة، يقول سابيلا "عند النظر إلى الوراء، أرى مجموعة أعمالي التي بدأت في أوائل التسعينيات بعدّة طرق، لكن ربما يكون الأكثر صلة بهذه المقابلة هو الحديث عن دورها في التحرّر الذاتي الذي أثاره عملي على تحرير الخيال من الاستعمار. على الرغم من أن بعض أعمالي شخصية، فإن قصة شخصٍ واحد هي قصة العديد من الآخرين. في فني ونصوصي، أهدف إلى نقل التجربة الفلسطينية بصدق مع أبعادها المتعددة. باختصار، رحلتي الفنية هي واحدة تتعلق بالتسامي، واحدة تأتي إلى تفاهم مع الماضي، الذي يمكن أن يقود فقط إلى التحول والتغيير والتجدد والحرية في النهاية".
ويستدرك: "مع ذلك، نظراً لأن تحقيق الحرية المطلقة مستحيل، أرى الحياة كمسيرة لا نهاية لها من التحرر. أقول غالباً إنني فنّان محظوظ لأن لدي العديد من المشاريع في ذهني. لكن لأسباب غامضة، بعضها يصبح معقّداً لتحقيقه"، مُشيراً إلى أنّ "أحد المشاريع التي كنتُ أهدف إلى القيام بها قبل سنوات كان حرق مشروعي المعروف، "كان ياما كان"، إلى رماد. في عام 2004، خلال ما شعرتُ به كهزيمة للصورة الفلسطينية، أردتُ إحياء القصة الفلسطينية من خلال شفائها في صناديق خشبية مصنوعة خصيصاً تشبه التوابيت. وضعتُ شريط فيلم في كل منها، من الصور التي التقطتها في جميع أنحاء فلسطين، والتي يمكن للمرء مشاهدتها أثناء النظر إلى فتحة دائرية من أعلى".
تعاون سابيلا حينها مع خمسة فنانين معروفين من فلسطين لرسم الصناديق، هم: هاني زعرب، ورأفت أسعد، وإيناس حمد، ومنذر جوابرة، وبشار الحروب. موضحاً "أريد خلق تجربة واحد إلى واحد حيث يُعزل المشاهد عن المحيط ويبدأ بالسفر إلى بُعد آخر. عن طريق إغلاق عين واحدة، تعمل الفتحة الدائرية في وسط الصناديق المستخدمة في 'كان ياما كان' كنفق في الزمن - الوجهة هي فلسطين. يسمح الصندوق متعدد الأبعاد للمشاهد بالنظر عميقاً إلى مساحته ثلاثية الأبعاد، حيث تصطف الصور واحدة بجانب الأخرى. في مجموعها، تروي قصة شعب وأرض".
ويرى أنه يمكن اعتبار العمل احتفالاً، لكن السكون والجمود الذي ضرب مصير فلسطين في السنوات التي تلت الانتفاضة الثانية، دفعاه للتفكير في مشروع جديد - حرق "كان ياما كان" إلى رماد، ومن الرماد إعادة التعاون مع الفنانين الخمسة لخلق فنٍ جديد من الرماد الأسود، نهضة للقصة الفلسطينية. وبالنظر إلى دمار فلسطين، يختم سابيلا حديثه بالقول "قد لا يكون إكمال 'كان ياما كان - القصة الفلسطينية' أكثر إلحاحاً اليوم".
كلمة رثاء
دوّن ستيف سابيلا على صفحته في "فيسبوك" كلمة رثاء لقيّمة المعرض كارين أدريان فون روكس (مع الفنّان في الصورة)، التي رحلت منذ أيام، يقول فيها "عند الاستماع إلى كلماتها، يرتقي المرء، لأنها ترى دائماً الصورة الأكبر للحياة". وقد وصفت العمل الفني الأقرب إلى قلبها في المعرض بأنه "صورة تلامس القلب، منظر طبيعي من أحلامي، يأخذني إلى مكان هادئ وساكن". يختم سابيلا "لتصعد روحها إلى أينما كانت تتمنّى أن تكون".