ما يحدثُ الآن في فلسطين تمازجٌ بين زمنين؛ زمن اقتلاع شعب من معناه وتشتيته وتذريته في مهبّ الريح في عام 1948، وزمن نهوض هذا الشعب من رماده كما الفينيق، على كامل تراب وطنه، في عام 2021. يقول هذا التمازج بجلاءٍ ما بعده جلاء، إن فلسطين تستعيد معناها وتلمّ شتات أمكنتها وأزمنتها، ليس بالعودة إلى الأمس وما قبله، بل بالاتّجاه نحو المستقبل، وعودة الإنسان الفلسطيني إلى مِلْحه ومائه بعد سنوات من تغييبه في الفيافي والعواصم بعيداً عن أرضه.
ويقول هذا التمازج أيضاً، إن ما يحدث هو تصفية ثقافةٍ قامت على محو وِحدة هويّة الشعب والأرض، وزراعة مفاهيم مضلّلة، مثل "فلسطين بيتٌ يُلقي ظلين"، والأرض محلّ نزاع بين "شعبين"، و"عملية السلام"، و"إقامة دولتين"، وما إلى ذلك من أوهام التهمت أحلام أكثر من جيل بالتحرير والعودة، التهمت أحلاماً هي أصدق من تخريف كذبة الملتحقين بعربات الصهاينة بذريعة الواقعية والعقلانية.
مقابل هذا، ها نحن نشهد، ويشهد معنا عالمٌ متنوّع اللغات والأصوات، ابتكار نصّ ثقافةٍ مُحرِّرٍ، سواء كان مكتوباً أو مرسوماً أو مغنّى. مُحرِّر للأنا الفلسطيني بقدر ما هو محرِّرٌ للغير والآخر العربي؛ نصّ ثقافة يتضاءل أمامه معنى المستعمِر الذي اصطنعت له دول الاستعمار الغربي لغةً وهويّة وزرعته في فلسطين حين كانت تضع يدها على خريطة الوطن العربي وتشكّلها وتشكّل ثقافتها كما تشاء، وحين كان المحيط العربي وسواحله مسرحاً لأساطيلها في النصف الأوّل من القرن العشرين، وما تلاه.
اصطدمت الموجة الصهيونية وتكسّرت على العمق الشعبي
ما يحدث الآن، مع هذا النهوض الذي يشبه نهوض طائر يمدّ جناحيه شرقاً وغرباً، ليس تحريراً فقط للنصّ الأدبي والفنّي والسياسي والاجتماعي الفلسطيني من استعمار ثقافي تعرّض، وما زال يتعرّض له، هو والنص العربي على حد سواء، بل هو هدمٌ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى للمستعمرات التي أقامها الصهاينة، من أيّ جنسية كانوا، في الأدمغة والعقول، مثلما أقاموها على الأرض أيضاً.
يقول هذا النهوض بلسان أجيال وأجيال متتالية، ونار بعد نار، ليس أمام هؤلاء الصهاينة، بمختلف جنسياتهم والبلدان التي جاؤوا منها، إلّا لملمة بقايا لغتهم المصطنعة وهويّتهم المختلقة والرحيل إلى بلدانهم الأصلية.
لم تكن السنوات التي مرّت منذ أن مدّهم المستعمرون البريطانيون أوّلاً، ثم الأميركيون ثانياً، بأسباب القوة للاستيلاء على بيوت وحقول وجبال وسهول وسواحل الفلسطينيين، خالية من الحضور الفلسطيني أو العربي الذي جعلهم يحسّون دائماً بأنّهم يحتلّون تراباً غريباً مرعباً. ليس بسبب موجات الفدائيين التي لم تتوقّف عن الانطلاق إلى فلسطين منذ خمسينيات القرن الماضي، أو تصدّي جيوش عربية رغم أنّها مفقرة ومحاصرة لهجماتهم فقط، بل وبسبب خطاب ثقافةِ مقاومة راسخة في العمق من وعي ومخيّلة شعب ردّ قطعان المغول والفرنجة على امتداد ثلاثة قرون (من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر)، ثم تصدّى لموجاتهم الإنكليزية والإيطالية والفرنسية والإسبانية المخرّبة بعد الحرب العالمية الأولى.
ثقافة العمق هذه هي التي اصطدمت بها الموجة الصهيونية حين تدفّقت إلى لبنان في أوائل الثمانينيات، وانكسرت، ويتواصل انكسارها منذ ذلك الوقت بعد كلّ اندفاعة، سواء كانت نحو جنين أو غزّة، إلى أن اتّضح أن العمق الذي اصطدمت به هو العمق الشعبي، وهو ذاته العمق الذي ينهض الآن في فلسطين كلّها بشكل لا يُذهل إلّا ذوي العقول المزروعة بمستعمرات من كل الأنواع، ولكنه، بالنسبة للأصحّاء، لا يزيد على تذكيرهم بأنّ ما حفظته ذاكرة آبائهم وأمّهاتهم، وما مدّتهم به رواياتهم عن انتفاضات وثورات العرب في أرياف العراق وسورية وفلسطين والمغرب، أي عن ثقافة المقاومة السارية من الأجداد إلى الأحفاد، ليس تخيّلاتٍ بل وقائعَ وحقائق مَثُلت وما تزال تنتظر المثول من جيل إلى جيل.
من هنا يمكن أن نفهم عمق اليأس الذي يتغلغل في أعماق قطعان المستعمرين الصهاينة الآن، فهم لم يعجزوا فقط عن استعمار مخيّلة وثقافة هذا العمق الشعبيّ، حتى مع اتفاقيات الاستسلام التي جرَّ إليها الأميركيون، ومَن والاهم، نطائحَ ومتردياتِ عددٍ من "ولاتهم" العرب الذين هم ليسوا سوى دمى يحرّكونها فتظهر أشباحها على ستارة هذه الدولة أو تلك، بل لم يعودوا قادرين على النجاة من الزلزال الذي يُحدثه نهوض الشعب الفلسطيني على كامل ترابه الوطني، فيرتجفون، ويترنّحون، وهم يتشبّثون بالساحل الفلسطيني الذي أقاموا عليه مستعمراتهم، ولم تغادرهم مخاوفهم الجاثمة على صدورهم منذ ما يقارب سبعين عاماً.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين