لم يكن العام المنقضي، مثله مثل كثير من الأعوام التي سبقته، محطّ آمال على الصعيد الثقافي في فلسطين المحتلّة. لا خطط جدّية ممأسسة، ولا محاولات رسمية للارتقاء بالحالة الثقافية، إذ لم يتعدّ ما جرى إنجازه هوامش الجهود الفردية، أو جهود بعض مؤسّسات المجتمع المدني التي تُعنى بالشأن الثقافي. ولعل الجائحة في عامها الثاني أحالت الكثير من الخطط، هذا إذا كانت هنالك خطط جدّية تُذكر، إلى مجرّد أفكار قابلة للتأجيل في أية لحظة؛ فقد أغلقت مؤسّسات الثقافة أبوابها في معظم محطّات العام، مكتفية بعقد ورشات ولقاءات إلكترونية هنا وهناك، وبالتالي لا يتجاوز الحديث عن منجز ثقافي في هذا العام أو ذاك - في ظل غياب رؤية وسياسات ثقافية - حدود الإحصاء والعدّ ضمن المنظومة البدائية في تقييم الأشياء.
وكما في غيره من الأعوام، حافظت رام الله، في 2021، على مركزيتها المفرطة كمركز ثقافي فلسطيني دوناً عن غيرها من محافظات فلسطين، في الأحداث والمناسبات الثقافية كافة؛ إذ استضافت المدينة "المركز" الأنشطة الأساسية كافة - على محدوديتها - واستمرّ تهميش الأطراف، بالتوازي مع تهميش الريف والمخيّم، ناهيك عن سياسة التكريس المستمرّة لأسماء كتّاب دون غيرهم.
وعلى طريقة العواصم العربية في نماذج التنمية التي تخدم المركز السياسي (العاصمة) فقط، استأثرت رام الله بحصّة الأسد في كلّ ما يمتّ إلى الثقافة بصلة في فلسطين المحتلّة، من فعاليات وإصدارات كُتب، وبقيت المدن الأُخرى تسبح في ما يُراد أن يُبقيها أطرافاً مهمّشة لا يصلها إلّا فتات، هذا إذا وصل، في حين بقيت غزّة ترزح تحت وقع آلام الحرب الأخيرة والحصار وتشديدات منظومة الحكم السياسي هناك.
تهميشٌ ثقافي للأطراف بالتوازي مع تهميش الريف والمخيّم
ولعلّ اللافت في أحداث العام الماضي، وتيرةُ الجدل الصاخب الذي رافق مجموعة من الأحداث، كان أبرزُها إقالة رئيس المكتبة الوطنية"، إيهاب بسيسو، من عمله بسبب منشور على فيسبوك أدان فيه مقتل الناشط السياسي الفلسطيني نزار بنات، قبل أن يجري تعيين عيسى قراقع على رأس المكتبة التي لم تبدأ عملها بعد، واكتفت بعقد مجموعة من الجلسات لمجلس إدارتها.
ليس بعيداً عن أجواء التعيين والإقالات، فقد صدر مرسوم رئاسي نهاية العام يقضي بتعيين مدير عام "دار الشروق للنشر" فتحي البس مديراً عامّاً لمؤسّسة ومتحف محمود درويش التي ظلّت تفتح وتغلق في الفترة الأخيرة بسبب الجائحة. أثار المرسوم تساؤلات عدّة؛ لأنّ مجلس إدارة المؤسّسة هو من يُفترَض أن يعيّن مديرها العام، في حين رحّب مثقّفون فلسطينيون بتعيين البس مديراً للمؤسّسة.
ظهرت الساحة الثقافية في فلسطين أقلّ ارتباكاً وهشاشة، لا سيما أثناء الهجوم الإسرائيلي على غزّة منتصف العام، وما رافقها من هبّة جماهيرية أَسقطت الحدود المكانية بين مكوّنات الشعب الفلسطيني، وإضراب كبير كانت له القدرة على توحيد مكوّنات الشعب تحت ذات الشعار من زمن طويل انقضى، إلّا أنّ جبهة الثقافة هذه المرّة لم تكتف بالمشاهدة، بل حاولت - من ضمن ما حاولته - أن تُشكّل رافعة ثقافية ومعنوية، لا سيما مع تضاعُف الانحدار في الواقع السياسي والمعيشي تحت الاحتلال، وما يُشكلّه من إحباط متراكم أمام التحدّيات الجديدة القديمة التي ما زالت تثير الكثير من الأسئلة حول تماسُك وعمق "جبهة" الثقافة في فلسطين، وقدرتها على إحداث تغيير ملموس؛ إذ إنّ المأمول أصلاً في أحداث بحجم هذه، أن تكون الثقافة "الجبهة" الأُولى في مواجهتها وإعادة إنتاجها. هذا الأمر يحيلنا، مع انقضاء العام، إلى مجموعة من الأسئلة، التي تبتغي - ضمن ما تبتغيه - إعادة تقييم الساحة الثقافية الفلسطينية أفراداً ومؤسّسات.
وإلى جانب ذلك كلّه، مثّلت أحداث مثل فوز الروائيَّين الفلسطينيَّين فجر يعقوب عن روايته "ساعات الكسل - يوميات اللجوء"، ونادر منهل حاج عمر عن روايته "مدن الضجر"، بـ"جائزة كتارا للرواية العربية" لعام 2021، عن فئة الرواية المنشورة بارقة أمل من أجل المزيد في حركة الكتابة وعجلة الترجمة التي لا تتوقّف عند أعتاب الوطن فقط.
لكن، ما زال سؤال الالتزام وتجاوُز الشرط الوطني الكبير في أمسّ الحاجة إلى تفكيكه بفعلٍ مقنعٍ وقادرٍ على مستوى الفعل الذي يتجاوز الشرط المكاني في أثره والزماني في رسوخ معانيه، لكن لا أفعال كبيرة تذهب بأدب هذه الأيام إلى مربّعاتٍ إبداعية تُجيب ولو باليسير عن أسئلتها الكبرى.
يمكن التلخيص في معرض ذلك كلّه، بأنّ ثمّة حركة تسحب نفسها إلى الأمام، ببطء، لكن بقوّة دفعها الذاتية دون إشراف أو رعاية مؤسّسية، في حين ما زالت الحالة الثقافية الراهنة تطمح إلى ما هو أعلى من الدعم والتوجيه والتكثيف... إلى منظومة قادرة على صناعة الفعل الثقافي الحقيقي وفق متطلّبات الحالة الفلسطينية الخاصة.
* كاتب من فلسطين