خلال مساره الفلسفي الذي امتدّ على أربعة عقود، عُرف الفيلسوف الفرنسي جاك بوفرس ــ الذي رحل عن عالمنا في أيار/ مايو الماضي (1940 ــ 2021) ــ بكونه مفكّراً جدلياً، ليس بمعنى إثارته للجدل بشكل شخصي، بل لميله إلى النقد والمقارعة الفكرية لـ"خصومه"، وحتى التهكّم الفلسفي منهم، على صفحات الورق وداخل طيّات كتبه، لا في وسائل الإعلام المرئية كما قد يفعل البعض.
وقد طبع هذا الميل إلى الجدل وعدم المهادنة الفيلسوفَ القادم من بيئة فقيرة، والواصل إلى أرقى درجات البحث العلمي في فرنسا (شغل لعقدٍ ونصف كرسيّ "فلسفة اللغة والمعرفة" في "كولّج دو فرانس")، بحيث يُنظَر إليه كأحد "مشاغبي" الحقل الفلسفي في فرنسا، ليس فقط لكونه أحد أبرز أسماء الفلسفة التحليلية وفلسفة اللغة في البلد (يُعَدّ من أوائل مَن أدخلوا فلسفة فيتغنشتاين إلى فرنسا)، بل كذلك لتناوُله عدداً من الظواهر الفلسفية التي يراها تعبيراً عن التهافُت وقِلّة الصرامة الشائعين داخل ما يُعرَف في العالم الأنغلوساكسوني بـ"النظرية الفرنسية"، والتي تشمل أسماءً مثل ميشيل فوكو، وجاك دريدا، وجيل دولوز، وغيرهم.
في عام 2016، كان صاحب "الفلسفة باعتبارها رياضةً قِتالية" قد نشر كتاباً أثار ضجيجاً في الفضاء الفكري بفرنسا، تحت عنوان "نيتشه ضدّ فوكو: عن الحقيقة والمعرفة والسلطة" (منشورات أغون)، وفيه حاول إظهار "لا صوابية" قراءة ميشيل فوكو للفيلسوف الألماني، ولا سيّما أن فوكو يُحيل فهمه للحقيقة ــ النسبية والبراغماتية بالنسبة إليه ــ إلى فريدرش نيتشه. وهو ما كان يعني أن بوفرس أراد، بكتابه ذاك، ضرب عصفورين بحجر: فلسفة فوكو (ومَن شابهوه من فلاسفة "النظرية الفرنسية") والأساس الذي تنبني عليه (قراءتها لنيتشه).
اليوم، بعد رحيل بوفرس بأشهر، يصدر عن منشورات "أور داتانت" ما يشبه الجزء الثاني من ذلك العمل، تحت عنوان "غضبُ نيتشه وعماء مُريديه"، وهو عملٌ أنهاه المؤلّف وأرسله إلى ناشره صيف العام الماضي، قبل رحيله، ما يُزيل عنه الضعف والنقص اللذين قد يسمان أحياناً الأعمال المنشورة بعد رحيل أصحابها.
يستكمل صاحب "معرفة الكاتب"، في عمله هذا، ما بدأه في سابقه، حيث يتناول بالتحليل والنقد قراءة ميشيل فوكو وجيل دولوز لنيتشه، اللذين جعلا من الفيلسوف الألماني، في رأيه، رمزاً للفكر اليساري الحرّ، بينما يرى بوفرس أن فلسفة نيتشه قائمةٌ على اعتقادات يمينية، بل وحتى يمينية متطرّفة، تكتنفها أطروحاته حول الفعل السياسي، والاجتماع الإنساني، والتاريخ، وحتى حول الحقيقة.
ومع كلّ تفكيكٍ لادّعاءٍ بيسارية نيتشه لدى فوكو ودولوز ــ حيث يُنظر عندهما، وعند كثير غيرهما، إليه بوصفه ثائراً على تقاليد زمانه، وعلى الانغلاق الفكري والمفاهيمي ــ يقدّم بوفرس تحليلاتٍ وأمثلةً على "رجعيّة" الفيلسوف الألماني، إن كان في اقتراحه نظرية هرمية للاجتماع البشري، أو في تمييزه ضدّ النساء، أو في نقده لأغلب المظاهر السياسية والثقافية التي تُربَط عادةً بالديمقراطية.
ويكتب: "لم يكن من الممكن أبداً الحديث عن نيتشه يساريّ، خصوصاً إذا ما أخذنا بالاعتبار العداوة المفتوحة، المستمرّة، الحاسمة والعنيفة التي أظهرها نيتشه تجاه الديمقراطية، والاشتراكية، والتقدّم الاجتماعية، والمساواة، بما فيها المساواة بين الرجال والنساء. رغم ذلك، ثمة وجود لنيتشه كهذا، نيتشه يساري، بل إن هذه النسخة منه هي التي وُضعت، في الفترة الأخيرة، أمام الأضواء وصارت، بشكل أو بآخر، النسخة الأصلية من نيتشه".