لا يختلف المؤرّخون للفلسفة الفرنسية في القرن العشرين حول القول بأنّ هذا القرن، أو النصف الثاني منه على الأقل، شهد ولادة تيّار يمكن تسميتُه بالتيّار المضاد للهيغلية، وقد تمثّل بصدور العديد من الأعمال الراغبة في القطع مع الهيغلية الطاغية في النصف الأول من القرن على المشهد الفلسفي الفرنسي؛ قطيعةٌ تمثّلت في نقدٍ للنظرة السيستمية التي عُرف بها صاحب "فينومينولوجيا الروح"، وكذلك في رؤيته الحتمية إلى التاريخ والعلوم والعديد من المفاهيم الأساسية في الفلسفة.
ولعلّ من أبرز الأعمال في هذا السياق كتاب لويس ألتوسير "من أجل ماركس" (1965)، الذي تبنّى فيه الفيلسوف نظرةً ماركسية مضادّة للهيغلية؛ كما تأتي في هذا السياق أعمال كلّ من ميشيل فوكو وجيل دولوز وجاك دريدا، الذين بنوا رؤاهم الفلسفية ابتداءً من نقد للهيغلية المهيمنة ورغبة في تجاوزها، أو في تجاوز تعميميّتها، كما فعل فوكو في "الكلمات والأشياء" (1966)، ودريدا في "الناقوس" (1974).
في كتابه "ولادة التيّار المضاد للهيغلية: لويس ألتوسير وميشيل فوكو قارئين لهيغل"، الصادر أخيراً لدى منشورات "المدرسة العليا للمعلّمين" في مدينة ليون، يتناول الباحث جان باتسيت فويرو هذا التيار الفلسفي لكن من وجهة نظر جديدة، إذ لا يُسلّم بقطيعةٍ كاملة لهذين الفيلسوفين مع هيغل، بل يقدّم كتابه بوصفه بحثاً يريد الذهاب أبعد من هذا "التبسيط"، وذلك من خلال دراسة السنوات والكتابات الأولى لكلٍّ منهما.
يعود المؤلّف إلى ما قبل الستينيات التي شهدت ظهور آراء ألتوسير وفوكو "ضدّ" هيغل، وهي آراءٌ جاءت، بحسبه، من معرفة كبيرة بأعماله؛ إذ كان هيغل الفيلسوفَ الذي دخل من خلاله فوكو إلى عالم الفلسفة، كما أن ظلاله حاضرة، بشكل مباشر أو عبر رغبة في تجاوزه، في أغلب نصوص المفكّر الفرنسي. والأمر نفسه ينطبق على ألتوسير الذي جاء إلى ماركس بعد قراءة هيغل، قبل أن تقوده "الإيديولوجيا الثورية" إلى "استخدام" الأوّل ضدّ الثاني، وإلى القول بضرورة تجاوز النظرة الهيغلية.
وعلى العكس من المقولة الشائعة بمعاكسة الفلسفة الفرنسية في النصف الثاني من القرن العشرين للهيغلية ومقترحاتها المفهومية، يدافع جان باتسيت فويرو عن أطروحة تقول إن أغلب التيارات الجديدة التي شهدتها فرنسا ــ من أركيولوجيا فوكو إلى تفكيكية دريدا، مروراً بفلسفة دولوز ــ كانت نتاجاً لحوارٍ مع الفلسفة الهيغلية، تأتي من داخلها، أي من قراءةٍ وفهم لها، لا من جهل بها ورغبة عمياء في القطيعة.