ثمّة ظاهرةٌ لافِتة تستحقّ التأمّل: صدور أربعة مناهج تعليميّة لتدريس العربية لغير الناطقين بها في فرنسا، والفضاء الفرنكفوني عموماً، في السّنة التي توشِك أن تنصرم. ففي الأشهر الماضية، أصدر فريديريك أمبار وكاترينا بينو كتاب: "العربية، أشْكال وألوان" (آب/ أغسطس 2022)، وقبله بقليل صدر منهجٌ آخر اشترك في تأليفه كلّ من إيناس حرشاني، وأمل قلاتي وإيزابيل قليبي. وقبلهما صدر الجزء الثاني من "منهج" فادي شاهين، فضلاً عن إعادة صياغة كاملة للجزء الأول من "منهج" لوك دوفيلس، الذي تجاوز العَشرَ طبعات. هذا ولا ننسى "منهج" ماري بيز فاران في تدريس اللهجة الشامية (صدر آخر كانون الأول/ ديسمبر 2021). فهل من تعليلٍ عِلميّ لهذه الوفرة في إنتاج مقرّرات تدريس الضاد بفرنسا؟ وما هي دلالاتها الثقافيّة؟
تُعلّل الظاهرة أوّلاً ببُعدها الديموغرافي، فقد ارتفع عدد المُقبِلين على تعلّم الضاد، ولا سيما بين أبناء الجيل الثاني والثالث الذين وُلدوا في فرنسا. ولا تفتأ الظاهرة في التأكّد على مرّ الأعوام، لتُشكِّل حالة وعيٍ بأهمية العربية لأسباب تتّصل بالهويّة والعودة الواعية واللاواعية إلى الجذور الثقافيّة، واللغة والدّين من مقوّماتها الرئيسة. من جهة ثانية، تُشكّل الأحداث المتعاقبة التي تهزّ المشهد السّياسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عاملاً قويّاً يدفع الشباب خاصة إلى فهم النظام اللغويّ على أمل فهم المنظومة السياسية والثقافية التي تحكم المنطقة العربية.
وفي هذا الإطار، نفهم إقبال الشباب الفرنسيين، من أصول فرنسيّة، على اكتساب هذه اللغة، وهو ما يفتح لهم آفاقاً واسعة في سوق الشغل ضمن وزارات الخارجية والداخلية والدفاع والاستخبارات، التي تتعامل مع البلدان العربية. وتجدر الإشارة إلى أنّ "معهد العلوم السياسية" (تأسّس بُعيد الحرب العالمية الثانية في باريس)، يستقبل، كلّ عام، مئات الطلبة الذين يودّون تعلُّم العربيّة. ويستوعب هذا المعهد، مع "المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقيّة" في باريس، أكبر عدد من هؤلاء الطلّاب.
وعيٌ لدى أبناء المهاجرين العرب بأهمّية تعلُّم لغة الضاد
وينبع العامل الثاني من المُتخيّل الجمعيّ الذي يتجلّى في شعور عامّ لدى الفرنسيين، بأنّ ما يسمّونه ــ خطأً ــ "العالَم العربي"، لا يزال يتصوّن على أسراره ويتكتّم على حضارة مُختلفة، تَفتِن باختلافها وتشدُّ بفراداتها وتبايناتها. فهي تُمارس ضربًا من السحر اللامفهوم على طالبيها، فيسعون إلى النفاذ إليها عبر تعلُّم اللغة واكتساب مفرداتها ومجازاتها. وهو ما يفسّر حضور عددٍ كبير من الطلبة في السنة الأولى، وربّما لأيّام وأسابيع قصيرة فقط، ثم لا يلبثون أن يغادروا الفصول بسبب صعوبات هذه اللغة على المستوى الصوتي والنحوي وتعقّد معجمها القائم على الاشتقاق، فضلاً عن عدد مفرداتها الضخم الذي يستحيل عليهم الإلمام به.
وأمّا العامل الديني، فيكمن في سعي المؤسّسات الرسمية، مثل "معهد العالم العربي" (مؤسسة ثقافية فرنسية يديرها جاك لانغ، وزير الثقافة سابقاً)، وكذلك المعاهد والجامعات التي تدرّس فيها هذه المناهج الأربعة، إلى توفير تعليم علماني، بزعمهم أنّ على العربية أن تخرج من أنظار المسلمين وطرقهم التقليدية في التلقين وأن تنفصل تماماً عن الإسلام ومقولاته. ورغم هشاشة هذا الموقف، إلّا أنّه نجح في استقطاب عدد كبير من الفرنسيين من مختلف الفئات العمريّة والاجتماعية، هاجسهم إتقان اللغة وتاريخها دون الإلمام بالعناصر الدينيّة التي تباطنها.
وفي مقابل هذا الموقف، يسعى معتنقو الإسلام والعائدون إليه من أصول عربيّة إلى إتقان اللغة من أجل تلاوة القرآن والتعمُّق في معاني الدين. وينشط هذا الجمهور في الجمعيّات الخاصّة التي تديرها المساجد، والتي تركز على الأطفال والشبّان. لكنْ، غالباً ما يُدرك هؤلاء أنّ التعليم لا يفي بالغرض ولا يمكنِّهم من فهم القرآن ولا حتى من تلاوته، إلّا نادراً.
رغبة بفهم المنظومة السياسية والثقافية التي تحكم بلادنا
كما يظلّ دافع البحث عن الترقّي المهنيّ حاضراً، حيث يُقبل العديد من الأفراد على تعلُّم الضاد من أجل اجتراح مسار مهني مريح، لا سيما وأنّ العديد من المؤسّسات تتطلب معرفة العربيّة، ولو في مستواها الأوّل، لقبول الترشّحات. ويوجد مَن يتعلّمها لأغراض البحث العلمي في بعض قطاعات العُلوم اللغوية والأدبيّة والإنسانيّة. لكنّ عددهم قليلٌ، ومن المفارقات أنهم أكثر الطلاب ثباتاً وأدومهم على التحصيل، فهم مَن يواصلون المغامرة أكثر من غيرهم.
وحين نحلّل المضامين التربويّة للمناهج، نرى أنّ أكبر صعوبة واجهتها جميعاً هي التعامل مع ظاهرة الازدواج والتعدّد اللغوي (pluriglossie، وdiglossie). فمن جهةٍ، انطلقت هذه المناهج من الإطار المرجعي للّغات الأوروبية الذي يقسم المستويات إلى ستّة ويركّز على المستويين الأولين (A1 وA2) اللذيْن يُعنيان بممارسة الوظائف التواصليّة الرئيسة في المجتمع، كأداء التحية والشكر والاعتذار... والمُلاحظ أنّ هذه الكتب تعمّدت إيراد صيغ الفُصحى التي لا يكاد يستعملها أحد في لغة التواصل الحقيقي، أيْ في الشّوارع العربية، ما يجعل تعلُّمها "مضيعةً للوقت"، لأنها غير قابلة للاستخدام. كما ركّزت هذه المقرّرات على الحوارات التي يمكن أن تنعقد في التخاطب اليومي، مع الصيدلي والطبيب والبقّال ومُراقب الحافلة. وهي أيضاً جارية وفق تراكيب الفصحى التي لا يستعملها أحد، ما يجعل من تلك الحوارات مصطنعةً، في قطيعة مع الواقع.
ما تزال هذه الكتب تتخبّط في تعاملها مع النحو
وأمّا عن مكانة النحو، فلا تزال هذه الكتب تتخبّط في الطريقة التي تتعامل بها مع قواعده: إمّا إقصاءٌ كلّيّ للتركيز على الجمل الجاهزة والعبارات المسكوكة، لأنّ المتعلّم مطالَب بأداء الوظائف التواصليّة من غير إتقان وظائف النحو أو تبحُّر في أوزان الكلمات ومعانيها الصورية؛ وإما إيراد الحدّ الأدنى من التوصيف النظري الذي يمكِّن من فهم آليات اشتغال النظام اللغوي. ولهذا السبب، لم يجدِ النحو في هذه المناهج المكانة المناسبة، واقتصر حضوره على شروح عامّة واستعادة بعض القواعد مع أمثلتها وتطبيقاتها. ولا تُواصِل إلّا قلّةٌ قليلةٌ الطريقَ الشاقّ لفهم ركائز النحو العربي وما فيه من استثناءات وشواهد، فضلاً عن تعقّد الاشتغال الصّرفي والعمل الإعرابي بسبب امتزاجهما بالمنطق الصّوري.
وتُثار أخيراً قضيّة المراجع التاريخية التي تستدعيها هذه المقرّرات من متخيَّلٍ لُحمتُه أحكامٌ مُسبقة وأفكار نمطيّة حول حياة العرب، كما لو كانوا ما يزالون يعيشون في القرون الوسطى، فجلّ الإشارات الثقافيّة التي تزخر بها هذه الكتب تُحيل على المقهى وتعاطي النرجيلة والرحلة إلى صيد الغزال في الصحراء، فضلًا عن قصص الخلفاء وسيوف المعارك وغراميات "ألف ليلة وليلة". وهو ما يؤكّد قطيعة كاملة بين الإحالات والمجتمعات العربية المعاصرة، وما تستدعيه هذه النصوص من شخصيات وأحداث اختيرت ــ دون معايير واضحة ــ من التاريخ القديم أو الحديث للحضارة العربية الإسلامية، مع الرغبة في توصيل رسائل أيديولوجية عبر هذه الاختيارات من قَبيل أنّ الإسلام وشخصياته يتلاءمون مع قِيَم الجمهورية، ومن قبيل شيوع الأدب الماجن، عبر التركيز على أبي نواس، مثلًا، دون غيره.
وهكذا، تثير هذه المناهج المنشورة سؤالًا أعمق: لماذا يجب إخضاع العربية إلى الإطار المرجعي الأوروبي للُّغات؟ ولماذا لم توضَع إلى حدِّ الآن استراتيجيّةٌ واضحةٌ لبحثٍ رصين في مضامين تدريس الضاد بعيداً عن إملاءات هذا الإطار الذي وُضع لغير لغتنا ولغير مُتعلّمينا؟ أليس من الأحرى البدء بنقد الموقف الغربيّ الاستعلائي، الحاضر بشدّة في هذه المناهج، والعمل على تفكيكها قبل مواصلة إنتاج مقرّرات أُخرى... غالباً لأغراض تجاريّة؟
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس