حنّا أبو حنّا.. حيثُ يمتدّ ظلّ الغيمة

06 فبراير 2022
حنا أبو حنا في بورتريه لأنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

يرحلُ حنّا أبو حنّا بعدما خاض كلّ مراحل التاريخ الفلسطينيّ المُعاصر، من ثورة عام 1936، إلى عام "النكبة"، و"النكسة"، وكلّ ما تلاها من حروبٍ ومنعطفاتٍ تاريخيّة، وشِهَد الانتفاضتيْن الأولى والثانية وما بعدهما. وفي كلّ هذه المراحل قدّم أعمالاً أدبيّة من شعر وسيرة وترجمات أدبيّة وأبحاثاً حتى انتهى به المطاف إلى الكتابة في أدب الأطفال.

فمنذ ترجماته الأولى عن الأدب الروماني "ليالي حزيران" في بداية الخمسينيات إلى "ملك الغابة" المكتوبة للأطفال عام 2016، مروراً بمجموعاته الشعريّة، قدّم خلال سبعة عقود عشرات من النصوص الأدبيّة متنوّعة الأشكال والمواضيع. هذا فضلاً عن انخراطه في سلك التعليم وعمله الدؤوب في الدفاع عن اللغة العربيّة أمام طغيان اللغة العبريّة، وفرضها كلغة رسميّة مُقرّرة في المنهاج على أجيال كاملة من فلسطينييّ الداخل.

هو واحد من جيل شعراء المقاومة الذين كرّسوا حضورهم في الأدب والثقافة منذ الأربعينيات. وكان الدافعُ الأساسيّ لكتابته  سعيُه إلى التأريخ لحياة القرية قبل العام 1948، وطقوسها الاجتماعية وعاداتها وقصصها وتراثها في العيش والمأكل والملبس كما في سيرة "ظلّ الغيمة"، النصّ الأكثرُ شهرةً بين كتاباته. انشغاله بهذه الفترة كان شكلاً من الرد على آلة القمع الإسرائيليّة التي سعت لمحوها وإنكار وجودها. فكان يدرك أنّ رواية حياته الشخصيّة هي رواية لتاريخ بلد كامل.

من الجيل المُؤسّس الذي أدرك دوره وخطورة المرحلة

يصف أحمد دحبور هذا الكتاب قائلاً: "يغافل جغرافيا البلاد وتاريخها، ولا يغفل ولو عن عشبة أو حصاة أو حتّى ظلف عنزة، فيقطّرها حكايات وأمثولات في سيرة نادرة تجمع نباهة الطرفة إلى وطأة الشهادة، وتسوق ضحكة النبع إلى دمعة القلب. هكذا يصبحُ ظلّ الغيمة مرآة لنا كجماعةٍ، وله كشاهدٍ متفرّدٍ، حيثُ يحمل حنّا أبو حنّا قناع يحيى ويعطيه الكتاب: يا يحيى خذ الكتاب بقوّة... وإنّه لكتاب مما لا يجود به العمر مرّتين".

في تاريخ الأدب، هناك دائماً جيلّ مؤسّس لجيل آخر يليه، يأخذ الكتابة إلى آفاق أرحب، ويحقّق قفزاته إلى مدى أبعد. كان حنّا أبو حنّا واحداً من هذا الجيل المُؤسّس الذي أدرك دوره وخطورة المرحلة وضرورة الاستثمار في الأدب كما في الواقع.  انخرط في مواجهة على جبهات عديدة، وقضيته الأساسيّة هي الدفاع عن أرض تُسحب من تحت القدمين، ولغة تُهمّش وتُمحى، وتسقط مفرداتها عن يافطات الشوارع، ومن أسماء المدن والقرى، ويتضاءل وجودها المهدّد بشكل دائم. لذا ليس من الصدفة أنّه كرّس كتباً عديدة في مجال التراث الفلسطينيّ.

كان حنّا أبو حنّا مثقفا بوعيٍّ مُتقدّم، نموذجاً لكاتب متكامل، في مرحلة مبكّرة من القرن السابق، اشتدّ فيها السجال بين التقليديين والمُحدثين في ساحة الأدب العربي. بينما انفتح هو على الكتابة الأدبيّة الجديدة لدى شعراء المهجر، ولدى جبران خليل جبران، وتعلّم الإنكليزية والرومانيّة وترجم عنهما، لإدراكه أهميّة الانفتاح والتواصل مع ثقافة عربيّة مُقصاة بحكم الواقع السياسيّ، وأخرى عالميّة بعيدة بحكم الجغرافيا واللغة.

ظل الغيمة - القسم الثقافي

تأتي أهميّة بعض الشعراء ليس فقط من كتاباتهم، بل أيضاً من تلك الرمزيّة التي تجسّدها تجربتهم، والدور الذي لعبوه في تشكيل الوعي الجماعي، في مرحلة تاريخيّة حاسمة. حنّا أبو حنّا واحد من هؤلاء، الذين شكّلوا الوعي الثقافيّ الفلسطينيّ، وبنوا أسسه، في دفاعه عن حضور اللغة، وبناء المجلّات الأدبيّة، من مجلة "الجديد" عام 1951، مروراً بمجلة "الغد" في 1953 وغيرهما، ورعايته للكتّاب والشعراء الشباب، والانخراط في الحياة الأكاديميّة، في المدارس والجامعات، والكتابة للأطفال، وتحقيق الترجمات.

كان يعرف أنّ المواهب الكبيرة لا تأتي من العدم، والحِراك الثقافيّ هو الذي يولّد النصوص الخلّاقة، والتجارب التي تحقّق التَجاوز. إنّها التربة الصالحة التي تبزغ منها أنساغ جديدة رشيقة وممتدة. كان أبو حنّا مُحرّكاً ثقافيّاً، عمل في التربيّة الفنيّة والثقافيّة والأكاديميّة لأجيال عديدة. ولم يكتف بوظيفة مدرّس تُملى عليه المناهج من الحاكم العسكريّ بل تجاوزها وناقضها مما أدى لفصله من التعليم في مرحلة ما. فهو كان يعرف أنّ المعركة لا تحدثُ فقط حول المدن وعلى مداخل القرى، بل أيضاً بين جدران المدرسة، وفي الدفاع المُستميت عن حضور اللغة العربيّة، حاملة الثقافة والهويّة ومخزن الذاكرة، لذا انخرط في سلك التعليم وكتب عشرات القصص للأطفال.

تشكّل وعيه الشعريّ في الثلاثينيات في مرحلة لمع فيها ثلاثة شعراء أساسيين، إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، وأبو سلمى. هؤلاء الذين امتزج شعرهم بحياتهم، ولم يعد، كما كان في تلك الفترة حبيس التقليديّة والدينيّات والمدائح. كان ذلك قفزة في تلك الفترة، تجديداً في اللغة، وفي الصورة والأسلوب الشعريّ. بذا تشرّب حنّا أبو حنا هذا الفضاء الشعريّ، ليظهر به ومعه الجيل الأول من شعراء المقاومة. فكانت بوصلة الكتابة لدى حنّا أبو حنّا تتلمس طُرُقَها في الواقع السياسيّ والاجتماعيّ في فلسطين، فيواجه القضايا والمصاعب والمنعطفات التاريخية بالكتابة، وكان منفتحاً على أشكال الكتابة المختلفة لمواجهة الواقع، في قضاياه العديدة، والتعبير عنه.

نموذج لكاتب متكامل في منتصف القرن الماضي

تجاوز الشعر الفلسطينيّ الآن شعر المقاومة، وظاهرة المقاومة، وذهب إلى فضاء أرحب بفضل مواهب شعرائه اللاحقين، من محمود درويش ومريد البرغوثي وغيرهم، وبفضل الأجيال الجديدة من الشعراء المنشغلة بعالم ذي قضايا مركّبة ومنشغلة بهواجس شخصيّة. لكن حين ظهر شعراء المقاومة في الخمسينيات والستينيات، بعد مرحلة الوعي الوطنيّ التي حققتها قصائد إبراهيم طوقان وجيله، كانت مفرداتهم جديدة، وأدخلوا قضايا حياتهم الشخصيّة إلى الشعر، وظهرت مفردات جديدة طازجة مستوحاة من القرى الممحوة عن الخريطة، وشجر السنديان الباقي، والغضب الشخصيّ والأخبار اليوميّة، فهم خرجوا عن تقليديّة الشعر وقوافيه الجامدة إلى قصائد تنبض بحياتهم الخاصة وهواجسهم وقضاياهم. فيقول درويش: "عندما جاء حنّا أبو حنّا وحوّل الأحداث اليوميّة والهموم اليوميّة والأخبار اليوميّة إلى قصائد أعطانا وعي ترابيّة الشعر ويوميّته... لأنّه هو فعلاً ربّى جيلي أو فتّح وعي جيلنا على إمكانية أن يكون الشعر عاديّاً ويوميّاً وبسيطاً".

في حوار منشور مع سليم تماري وآخرين، تحدّث حنّا أبو حنّا عن نشاطاته في فترة عام 1948 حين كانت سلطات الاحتلال تشيع جو إرهاب عام، وتعاقب أيّ معلم أو موظّف يُسجل عليهما أنّهما يقرآن الشعر الوطنيّ، أو يشاركان في النشاطات الأدبيّة. فكان الوصول للقرّاء يتمّ "من خلال فرق تحمل الصحف أو المجلات إلى البيوت وتقرع الأبواب أو عن طريق شخص مؤتمن". ويضيف: "كنّا نقيم مهرجانات شعريّة في القرى والمدن، نتحدّى الحكم العسكريّ، ونسافر دون تصريح". وكان على الشعر "أن يصل الى الناس مباشرة ليؤدي الرسالة، فكان مباشراً، وكان على الشعراء المتمرّدين أن يحتملوا السجن أو النفي أو الإقامة الجبريّة" بحسب تعبيره.

هذه الشموليّة، والتعدّد، والتنوّع في الكتابات والنشاطات الأدبيّة والوطنيّة جعلت من حنّا أبو حنّا، المولود في قرية الرينة شمال الناصرة، عام 1928، صاحب العمر المديد الذي انطفأ منذ أيام، وصاحب التجربة النادرة بثرائها في الحياة الثقافيّة الفلسطينيّة يوصف بـ"زيتونة الجليل" و"أستاذ الشعراء" الذي حضن الشعراء والكتّاب الجدد، كما فعل عروة بن الورد، قبل قرون عديدة، وهو الذي عبّر أبو حنّا عن إعجابه به.


* شاعر وأكاديمي فلسطيني

المساهمون