في سيرته الذاتية التي صدرت بأجزائها الثلاثة، وفي عدد من دراساته ومقالاته، قرأ حنا أبو حنا، الذي رحل عن عالمنا منذ أيام عن أربعة وتسعين عاماً (1928 - 2022)، النكبة في سياق النهضة التعليمية التي شهدتها فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر، وما تعرّضت إليه من انتكاسات بعد الاستعمار البريطاني انعكست سلباً على مسار الأحداث السياسية، وأثر تلك النهضة وملامحها في حداثة المجتمع وتشكّله.
الشاعر والباحث والتربوي الذي طاف المدن والقرى الفلسطينية قبل عام 1948، واستعادها في كتاباته المتعدّدة، توقّف مراراً وتكراراً عند دراسته في "الكلّية العربية" بالقدس بين سنتيْ 1943 و1947، في مطالعات نابهة لتلك المرحلة الحرجة التي أسّست لاحتلال صهيوني ولحدودٍ تحاصر الأرض والعقل، إذ يشير إلى الدور الذي لعبه أساتذة مثل نقولا زيادة ومحمود الغول وجورج حوراني في تدريس الفلسفة والآداب والفنون المعاصرة، وتوجيههم الطلبة نحو الحوار والبحث العلمي.
ويبيّن أبو حنا أن بدايات اهتمامه بالتراث تعود إلى نقاشاته مع مدير الكلّية، أحمد سامح الخالدي، ومعلّمه إسحق موسى الحسيني، حيث وضع الأول في تلك المرحلة عدداً من مؤلّفاته حول الحياة العلمية في بلاد الشام خلال التاريخ الإسلامي، بينما دفع الثاني طلّابه لدراسة أعلام فلسطين في حقبٍ ماضية، فكتب أبو حنا حينها بحثاً حول الشاعر أبي إسحق الغزي (1049 - 1130) الذي ترك قصائد عدّة بثّ فيها حنينه إلى عسقلان وغّزة التي غادرها إلى دمشق طلباً للعلم، قبل أن يستقرّ في خراسان حتى رحيله.
وثّق نشأة المدارس والمعاهد الفلسطينية منذ القرن التاسع عشر
تلك الاستعادات قادت صاحب كتاب "الأدب الملحمي" إلى توثيق نشأة التعليم ومؤسّساته في فلسطين خلال العقود الخمسة أو الستّة التي سبقت انهيار الدولة العثمانية، لافتاً إلى عدد من الجمعيات الإسلامية العربية التي أنشأت مدارس خاصّة في القدس وعكّا ثم انتشرت في مدن أخرى، ليصل مجموعها إلى ثلاثمئة وتسع وسبعين مدرسة بحلول عام 1914، كردّة فعل على المدارس التركية والإرساليات التبشيرية وبحافز سياسي قومي ضمنيّ.
وينوّه إلى أن هذه المدارس تعرّضت لتضييقات من قِبَل السلطات في بداية نشوئها، حيث أُغلق عددٌ منها وتمّت ملاحقة أصحابها، لكنّ تلك السياسات لم تثنِ مجموعة من النخب ورجال الدين عن إصرارهم على تدريس العلوم باللغة ىالعربية، ومنهم الشيخ محمد الصالح الذي أقام "روضة الفيحاء" عام 1906 داخل أسوار البلدة القديمة في القدس، والذي تلمّس الحاجة لإنشاء معهد وطني عالٍ يدرس فيه أهل البلاد بعدما أحسّ بعدم قدرتهم على مجاراة المعاهد التي أقامتها البعثات الأوروبية منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر.
وفي كتابه "طلائع النهصة في فلسطين: خرّيجو المدارس الروسية (1862 - 1914)"، يعيد أبو حنا قراءة وثائق تاريخية وتقارير إدارية وشهادات الطلبة في تتبُّعه دور المدارس والمعاهد التي شيّدتها موسكو في مدن وقرى فلسطين واعتمدت التعليم المجّاني، فالتحق بها أبناء الفلاحين الذين تبنّوا رؤى تحرّرية وتمرّدوا ضدّ التقاليد الأكاديمية، وظهر ذلك في مساهمتهم الجادّة في تجديد الأدب العربي لاحقاً.
لا يغفل تهديم الثقافة والأدب باعتباره أحد أبرز وجوه النكبة
كما يشير إلى نقطة بالغة الأهمّية تتعلّق بانخراط الفتيات في تلك المدارس، حيث بلغت أعدادهنّ نحو أربعة آلاف وخمسمئة طالبة مقابل خمسة آلاف ومئتي طالبٍ سنة 1907، وكذلك إلى اعتماد العربية لغة أساسية في المؤسّسات التعليمية الروسية، ما شكّل عاملاً أساسياً في تشكيل خرّيجيها رؤىً ومواقفَ قومية ضدّ سياسات الاستعمار البريطاني في فلسطين.
يركّز أبو حنا على المعركة التي قام بها المهاجرون اليهود، بدعم من بريطانيا، من أجل الإخلال بالواقع التعليمي في فلسطين، حيث شرَعت المؤسسات الصهيونية ببناء المعاهد والجامعات التي وُضعت خططُ تأسيسها في بدايات القرن العشرين، ومنها "التخنيون" (معهد العلوم التطبيقية في حيفا) و"الجامعة العبرية" في القدس، في وقت ضيّقت فيه سلطات الاستعمار الحصار على التعليم الفلسطيني، عبر جملة من القوانين، حيث لم يتمكّن الفلسطينيون من إنشاء إلّا بعض الكلّيات في القدس ورام الله.
ولا يغفل أبو حنا نكبة الثقافة والأدب باعتبارها أحد أبرز وجوه النكبة من خلال توثيقه للمطابع والمكتبات التي نُهبت على يد العصابات الصهيونية، حيث أُعدمت وفقدت مئات آلاف الكتب واختفى أرشيف الصحف والمجلّات، كما يذكر تفرُّق معظم الشعراء والكتّاب في المنافي، وبدْء سلطات الاحتلال الإسرائيلي حملة ممنهجة ضدّ المعلمين الذين بقوا في أرض فلسطين التي اغتُصبت عام 1948، وتطبيق "عبرنة التعليم".
يقرأ أبو حنا الظروف والسياقات التي أجهضت نهضة تعليمية وعلمية عاشتها فلسطين قبل احتلالها، رغم الصعوبات التي واجهها أصحاب المؤسسات التعليمية وخريجوها، ولا يزال أثرهم واضحاً بما تركوه من مؤلّفات وترجمات أدبية ونقدية، وعشرات المجلات والصحف التي أسّسوها في بلادهم وبلدان الجوار.